تعقبا على صديقي الصويان .. سيف لا سيفان
قرأت مقالا لطيفا في مبناه, جديدا في معناه للصديق الدكتور سعد الصويان عنوانه: "العلم.. لماذا السيفان" نشره في جريدة "الاقتصادية" في صفحة الرأي يوم الثلاثاء الماضي الموافق للرابع من ذي القعدة 1426هـ, وكعادة الدكتور سعد, فهو يطرق موضوعات جديدة, ويبدع في عرضها, ويتناولها بشيء من النقل يؤيد ما يذهب إليه, ويتناولها بشيء من الفكر والعقل ليبسط قوله, ويحشد له البراهين العقلية. وهو بهذا الصنيع في كل ما يكتب, إنما يتبع المنهج العلمي الصارم الذي درسه, وهو المنهج نفسه الذي يتبعه أيضا في دروسه في جامعة الملك سعود. والمقال الجديد نشرته جريدة "الاقتصادية" مشكورة. وأنا حفي بهذه الجريدة, ذلك أنها تنشر الجديد, وتزيد على ذلك بأنها جريئة فيما تنشر, وهذه وأيم الحق خصلة تشكر لها وتُذكر.
مقالة الصديق الدكتور سعد الصويان تدور حول فكرة وجود السيفين في علم المملكة. وهو يتساءل عن المانع من تغيير العلم بعد مرور 100 سنة من اعتماد الشعار. وهو يقول تغيرت أمور كثيرة, وبقي السيفان اللذان يشيران إلى فترة التأسيس وما تتطلب من قوة ومن رباط. وهو يرى أن السيفين يرمزان لفترة سابقة تجاوزناها. ويضيف هذا السؤال: لماذا لا تخلق كل مرحلة من مراحل الإنجاز رموزها الخاصة بها والمعبرة عن روحها. وهو يعتقد أن السيفين في علم المملكة يرمزان لشرعية الدولة. وقد أيد مجادلته العقلية بأبيات من الشعر الشعبي تعود لفترة الدولة السعودية الثانية, وبقول لأرسطو وتوماس هوبز عن مفهوم الدولة وأهدافها. لقد أجاد الدكتور سعد وأفاد. ولكن لي معه مداخلات بسيطة أرجو أن يتسع صدره لها, ذلك أن مقاله مثير وجديد, ويستحق الوقوف عنده, والتمعن فيه. وقد جمعت مداخلتي في النقاط التالية:
1 ـ فكرة أن كل مرحلة زمنية, وكل تطور نوعي أو فكري أو مادي تشهده الدولة مدعاة لتغيير العلم والشعار. هذه فكرة غير مواتية, وليست مقبولة في عرف الدول. وعلم الرايات الذي هو العلم الذي يعني بدراسة الرايات لا يقول بهذه الفكرة. ومن النادر أن تغير الدول أعلامها وشعاراتها. فاليابان الدولة الاستعمارية التي هزمت في الحرب العالمية الثانية, غيرت كثيرا من أهدافها وشعاراتها. ولكنها أبقت علمها القديم بألوانه وشعاره الذي يرمز إلى الشمس المشرقة. ويقال إن الدنمارك ظلت أكثر من 750 سنة تستعمل العلم نفسه, وهو علم مزين بالصليب الأحمر على خلفية بيضاء وذلك منذ سنة 1219م. والتغيير إنما يحدث مع الثورات المفصلية مثل ثورة البلاشفة في روسيا والثورة الفرنسية والثورة الإيرانية. ومع هذا فكثير من الثورات أبقت الرموز السابقة لها. وروسيا لم تغير علمها الوطني حتى بعد الثورة البلشفية, وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي رجعت روسيا الاتحادية لعلمها القديم. فتأمل رعاك الله.
2 ـ المعروف أن علم الدولة هو راية ترفعها الدولة لتكون سمة تميزها عن غيرها من الدول. وهو يمثل شيئا أو معنى يستنبط من أرض الوطن, أو يؤخذ من ثقافة الشعب أو يعبر عن فلسفة الحكم, أو يشي بالمثل التي يؤمن بها الشعب. وعلم المملكة يحمل كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وتحتها سيف باللون الأبيض على خلفية خضراء. وهو سيف واحد لا سيفان كما ورد في مقالة الدكتور. والسيفان ليسا من رموز العلم, بل هما من شعارات الدولة والفرق كبير بين العلم والشعار. ذلك أن الشعار يختص "بعلم شعار النبالة", وهو علم ظهر في القرن الثاني عشر الميلادي ثم اختفى الآن. أما العلم فهو يختص "بعلم الرايات" الذي يدرس الأعلام. وبالمناسبة فشعار المملكة هو سيفان متقاطعان بينهما نخلة.
وقد اختير العلم برموزه ولونه منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة. لكنه في الواقع يعود إلى زمن أقدم من هذا, بل هو يشكل استمرارية, وإن لم يكن رسميا, أقول يشكل استمرارية الدولة السعودية بأدوارها الثلاثة منذ القرن الثاني عشر الهجري / الثامن عشر الميلادي. لهذا يمكن القول إن هذا العلم يعبر عن دولة منذ 300 سنة ونيف. فهل من المعقول أن يتم حذف جزء منه بسبب عقلي كونه لا يتناسب مع الحقبة المعاصرة بمعطياتها الثقافية الجديدة. أقول إن هذا التوجه يقلل من أهمية خلفية تاريخية طويلة يجب المحافظة عليها.
3 ـ استند الدكتور سعد في مجادلته الفكرية الجميلة إلى كون السيفين يعبران عن فترة التأسيس وما تتطلب من قوة ومن رباط. وهو يرى أن السيفين يرمزان لفترة سابقة تجاوزناها. أما أنهما يعبران عن فلسفة التأسيس والتوحيد فهذا صدق. أما أننا تجاوزنا فترة التأسيس فهذا رأي فيه نظر. ذلك أن الدول عندما تتخذ العلم في بداية تكوينها, فإنها لا تعمد إلى تغييره إلا في ظروف مفصلية مثل الثورات الكبيرة, فبريطانيا الاستعمارية لم تغير علمها القديم بعد زوال الاستعمار. فالصلبان في العلم البريطاني أو ما يعرف براية الاتحاد وصليب القديس جورج هما رمز قومي لبريطانيا منذ القرن الثالث عشر الميلادي. لقد بقي الصلبان وزالت بريطانيا العظمى. والحق أننا في حاجة أن يبقى شعار التأسيس والتوحيد ليكون نبراسا واضحا معبرا عن الفلسفة التي قامت عليها الدولة السعودية. فقد قامت على شرعية دينية موحدة, يحميها ويحمي الوحدة الوطنية القوة والتلاحم الذي اتخذ من السيف إشارة لهما. فلا مشاحة أن السيف يعبر عن قوة, وليس هو في ذاته. فأدوات القوة تغيرت, لكن ليس من الأمر السهل تغيير معاني القوة والمنعة والرباط. بتغير أدواتها. ولو كان الأمر كذلك, لاضطررنا تغيير العلم وشعاره كل 50 سنة أو تقل. فقوة الماضي بالسيف, والآن بالطائرة والدبابة, وغدا العلم عند الله, ويمكن أن يكونا لفيروس أو شيء حقير مثله أداة قوية.
4 ـ يرى الدكتور سعد أن السيفين يعبران عن شرعية تتخذ من القوة شرعية لها. وهو لا يناسب العصر الحديث. فأعلام الدول ترمز للخير والنماء والسلم والاستقرار. والسيف لا يعبر عن هذه الأفكار. ونحن معه في هذا, ولكن كيف لنا أن نفرط في شعار التأسيس والتوحيد من أجل ألا ينظر إلينا من منظار السيف ودلالاته التاريخية. فليس بالضرورة أن تعبر أعلام الدول عن أخلاق مواطنيها. فأكثر الدول شراسة في عالم اليوم لا تجد في أعلامها وشعاراتها سيوفا أو بنادق, بل نجوما وورودا. فالعبرة ليست في الرسم ولكن في العمل والأخلاق. والسيف أداة مثل بقية الأدوات قد يستعمل في وضع الشيء في موضعه, وقد يستعمل خلاف ذلك, وهذه جارتنا عمان لم تلغِ الخنجرين المتقاطعين من علمها. وهذه كينيا لم تلغِ الرمحين المتقاطعين من علمها. وهذه سريلانكا لم تلغِ الأسد وفي يده سيف مشرع من علمها وأمر آخر لو غيرنا السيف اليوم لعدم ملائمته روح العصر, ووضعنا بدلا عنه صورة بئر نفط مثلا. فما نحن فاعلون بعد نضوب النفط.
ولو وضعنا نواة إلكترونية, فما نحن فاعلون بعد زوال تقنية الإلكترون. علم الرايات لا يقول بهذا, وإلا لأصبح لكل دولة أعلام جديدة كل فترة أو حقبة جديدة.
والصحيح أن الدول تبنى على أسس متينة. ومن هذه الأسس: العلم والشعار اللذان اعتمدا في البداية هما بمثابة الأساس الذي تستطيع الدولة أن تبني عليه ما شاءت البناء.
وتستطيع أن تشيع الخير والنماء والسلام بصرف النظر عن أساس بنيانها. ولكنها لا تستطيع أن تقصر في عمرها الزمني, وتلغي ذاكرتها التاريخية. هذه مغامرة غير محسوبة. ذلك أن التغيير في الأساس أمر محفوف بالمخاطر. والمملكة أحسبها في سعيها إلى التطور والحداثة والعصرنة تسير بتؤدة, لا تسير بمفهوم الثورة ونسيان الماضي ورموزه. والله أعلم.