اقتصاد ما بعد الحداثة

اقتصاد ما بعد الحداثة

لم تكن الحداثة في أطوارها الأولى والثانية والثالثة التي مرت بها المجتمعات الغربية, أوروبا أولا، ثم الولايات المتحدة لاحقا, من الناحية الاقتصادية، إلا صراعات نظرية وعملية في الأطروحات الاقتصادية من البرجوازية إلى تلوينات الليبرالية إلى تلوينات الاشتراكية، إلى تلوينات الرأسمالية, غير أن كل ذلك يبدو اليوم بيمينه ويساره قد استحكمت فيه حرية السوق وترك الاقتصاد رهنا بقوى السوق تتحدد قدرته على الاستثمار والصمود في حمى المنافسة على مدى ما يتمتع به هذا الاقتصاد من آليات وموارد بشرية وعلمية وطبيعية, الأمر الذي أزاح حواجز السيادات القومية تحت سقف سيادة واحدة هي منظمة التجارة العالمية.
هذا المنتهى الذي آلت إليه مسيرة اقتصاديات الحداثة في أطوارها الثلاثة هو ما يمكن أن نسميه اقتصاد ما بعد الحداثة, الذي يتموضع تحت تشريعات منظمة التجارة العالمية ويؤلف فيه المكون المعرفي وما بعد المعرفي, أي المتناهي الصغر وخطير الأثر في حركة التطور والرقي.
قوى السوق هي ابنة الاقتصاد الحر، إنما بنسخة البنك الدولي وبشروطه الحالية التي تقيم كفاءة الاقتصاد بخضوع .. برامج ومشاريع الدول لإملاءاته وليس للاعتبارات والظروف الخاصة بتلك البلدان ومتطلبات تنمية مجتمعاتها على وجه الخصوص.
غير أن اقتصاد ما بعد الحداثة الذي شاءته أمريكا منهجا للعالم, أخذ يصطدم بمصدات فنية ومصلحية ناهضة من فكرة توحيد العالم وتجميعه تحت سقف منظمة التجارة العالمية لتجعل كل الكرة الأرضية سوقا مفتوحة بطلاها العرض والطلب وسحرها الخفي المنافسة, فقد برز لأمريكا نفسها من ينافسها ومن يعترض على تمنعاتها التي لا تقبلها هي من الآخرين, ومعركة الفولاذ والزراعة بينها وبين أوروبا فصل حرج أصاب الأطروحة بجرح لم يعد بالإمكان إخفاؤه لأنه يشير إلى أن من يضع شروط اللعبة لا يمكنه التنصل من الخضوع لمفاجآتها.
فهل سيتجاوز اقتصاد ما بعد الحداثة أزمته في ظل اشتراطات منظمة التجارة العالمية؟ أم أنه سيأتي عليها من الخارج؟ هذه الأسئلة ستتولى الإجابة عنها دول غير أمريكا منها ما يمكن اعتبارها قوة عظمى ومنها دول نامية وبالتالي قد يأخذ اقتصاد ما بعد الحداثة معنى غير ما أرادته أمريكا.

الأكثر قراءة