الذهب واقتصادات الخليج

الذهب واقتصادات الخليج

منذ ما يزيد على سنتين، نشر مركز الخليج للأبحاث دراسة تحت عنوان "دور الذهب في العملة الموحدة لدول المجلس". وعقد كذلك حلقة نقاش مع السيد فرديناند ليبس، أحد أكثر خبراء الذهب شهرة في العالم، الذي وافته المنية بعد ذلك بفترة قصيرة. توقع السيد ليبس في ذلك الوقت ارتفاعاً كبيراً في أسعار الذهب ودعا دول المجلس إلى تنويع احتياياتهم النقدية والاعتماد أكثر على الذهب بدلاً من الأوراق النقدية مثل الدولار الأمريكي واليورو. إن الحقائق القائمة على أرض الواقع الآن تؤكد صحة تلك التوقعات ودقتها.

الحقيقة التي لا مجال للتشكك فيها هي أن الذهب يستعيد الآن بريقه بين الأصول فبعد أن ظلت أسعار الذهب متدنية في سوق المضاربات لمدة استمرت عقدين من الزمن، وهبوط أسعاره في عام 2001 إلى مستوى 250 دولاراً أمريكياً للأونصة الواحدة، ازداد سعره الدولاري أكثر من الضعفين خلال أربع سنوات فقط، إذ يتجاوز الآن 500 دولار أمريكي للأونصة. ومعلوم أن نساء الهند ومنطقة الشرق الأوسط يُعتبـَـرن العنصرين الأكثر أهمية في سوق الذهب العالمية، وقد تفوقت أولئك النساء على "صناديق التحوط" المعقدة والمتطورة في سوق المال في "وول ستريت"، وذلك بفضل الاستراتيجية الأساسية التي يتبعنها، وهي "الشراء والاحتفاظ". كما أن أداء بورصة الذهب كان أكثر إثارة للدهشة أيضاً، حيث ارتفع مؤشر "هوي" في بورصة خامات الذهب من 35 إلى أكثر من 300 في الفترة ذاتها.

وتكمن أسباب قوية وراء هذا الارتفاع الكبير في سعر الذهب، فقد خرج العجز المزدوج في ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية من عقاله وأصبح خارج السيطرة، كما أن الدين التراكمي بالدولار الأمريكي أصبح أكبر بكثير من أن يكون قابلاً للسداد مقارنة بالقاعدة الاقتصادية لهذا الدين، وربما سيتم التخلف عن سداد هذا الدين أو أن الأمر الأكثر ترجيحاً هو أن يتضخم ويبلغ حداً يجعل من تسديده عملية لا تقدم ولا تؤخر. وكان بن بيرنانك خليفة آلان جرينسبان محافظ البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق واضحاً جداً عندما قال إنه يفضل تشغيل "المطبعة الإلكترونية" وإمطار الشعب الأمريكي بالأموال بطائرات الهليوكوبتر من أجل منع وقوع صدمة نقص في السيولة. يُضاف إلى ذلك أن السوق أصبحت أكثر إدراكاً لضخامة العجز في سوق الذهب. ويقول فرانك فينيروسو في دراسة له عام 2001، إن إنتاج مناجم الذهب يكاد لا يصل إلى نصف الطلب العالمي السنوي، وإن الكميات التي يتم إنتاجها تتناقص أيضاً. وبعيداً عن المعروضات من الزوائد أو "الكسر" كما يسميه صاغة وتجار الذهب، فإن القسم الأكبر من عمليات سد الفجوات بين العرض والطلب يأتي من البنوك المركزية التي تبيع وتؤجر الذهب في الأسواق. وتنطوي عمليات التأجير بشكل خاص على خدعة، وتتطلب مهارة عالية في التعامل، وكانت السبب وراء قيام حالة هائلة من التعاملات قصيرة الأجل في سوق الذهب. ومعروف أن البنوك المركزية الغربية هي التي تؤجر أساساً الذهب للبنوك التجارية التي تبيعه بدورها في الأسواق، وتحصل البنوك المركزية على نسبة من قيمة الأجرة، بينما تستثمر البنوك التجارية الأموال التي تحصل عليها في مجالات مجزية كالسندات مثلاً. ويمكن أن يكون الجميع سعداء بهذه العملية، لكن هناك مشكلة، فالذهب لا يزال يُعتبـَـر جزءاً من الموجودات والأصول في دفاتر المصارف المركزية ودفاتر البنوك التجارية أو "صناديق التحوط" فيها، بينما يكون الذهب الفعلي قد غادر الأقبية والسراديب منذ زمن بعيد، واستقر حول أعناق النساء في أرجاء العالم، اللواتي يُعتبـَـرن "الغاية النهائية" لسوق الذهب من دون أن يعرفن هذه الحقيقة. ومن الأمور التي لا يمكن تصديقها القول إن "العقود العاجلة" يمكن أن تتم تغطيتها من خلال الأسعار الحالية. ويبدو أن السوق تتوقع أن تأتي مرحلة تصبح البنوك المركزية فيها غير قادرة على تغطية "الفجوة" في العرض أو ينفد ما لديها من ذهب، أو ألاّ تكون راغبة في بيع أحد أهم الموجودات والأصول المتوافرة لديها.

والمؤشرات الأولى على السير في هذه الاتجاهات بادية بالفعل منذ الآن: فهناك عدد كبير من البنوك المركزية مثل البنوك المركزية: الروسي والصيني والأرجنتيني التي تُعتبـَـر عملياً من الجهات المشترية للذهب، وذلك بهدف تنويع احتياطياتها من العملات، كما أن البنوك المركزية الغربية تبدو مترددة في القيام بالمزيد من عمليات البيع "ألمانيا مثال على ذلك"، أو أنها باعت أو قامت بتأجير معظم ما لديها من الذهب "مثال على ذلك المصرفان المركزيان الإنجليزي والبرتغالي".

ولذلك، فإنه إلى جانب المخاوف من التضخم وضعف أحوال الدولار الأمريكي، فإن هناك عاملاً رئيسياً ثالثاً في مسيرة أسعار الذهب خلال السنوات القليلة الماضية، وهو العقود قصيرة الأجل، وتمتلك هذه العوامل الأساسية من القوة ما يجعل المرء يفترض أننا لا نزال أمام بداية أسعار تاريخية فريدة، ولسنا أمام خاتمتها. والحقيقة هي أن الطفرة في أسعار النفط والسلع، التي ترافق أسعار الذهب والتطورات السياسية غير المستقرة تذكّر بالسباق الذي خاضته أسعار الذهب في عقد سبعينيات القرن الماضي، عندما قفز السعر من 35 دولاراً أمريكياً إلى 850 دولاراً.

ويعتقد أن الأفراد في دول الخليج مستعدون جيداً لهذه التطورات، حيث يُعتبـَـرون المشتري الثاني للذهب على الصعيد العالمي بعد الهند، لكن البنوك المركزية في منطقة الخليج لم تُظهر القدر ذاته من بعد النظر حتى الآن.

فاحتياطيات هذه البنوك من الذهب متدنية جداً في المستويين المطلق والنسبي، وقد باعت بنوك أربع دول خليجية، هي دولة الإمارات العربية المتحدة وعُمان وقطر والبحرين كل ما لديها تقريباً من الذهب، بينما قام البنك المركزي الكويتي بتأجير احتياطيه كله من الذهب في ظل احتمالات صعبة بإمكان استعادته إذا تخلفت الأطراف الثالثة عن السداد. وتثير هذه الخطوات من جانب البنوك المركزية الخليجية الكثير من الدهشة والاستغراب، لأن الذهب يمثل أداة تحوطية ممتازة في مواجهة التضخم وضعف الدولار الأمريكي، وبإمكانه أن يخفف بالفعل من أخطار التغيرات السريعة الكامنة في بيع سلعة النفط النفيسة بإيصالات دولارية ورقية تتآكل قيمتها.

يُذكـَـر أن المعدل الأدنى لاحتياطيات الذهب التي يشترطها البنك المركزي الأوروبي على الدول الأعضاء هي 15 في المائة. كما أن إعلان روسيا أخيراً عن ازدياد احتياطيها من الذهب من 5 في المائة إلى 10 في المائة يُعتبـَـر بمثابة سياسة استرشادية مفيدة لدول الخليج. لكن ثقة هذه الدول بالدولار الأمريكي تبدو حتى الآن وكأنها لا تتزعزع، إضافة إلى ذلك، فإن الدول المصدّرة للنفط الأعضاء في منظمة "أوبك" زادت مرة أخرى في عام 2005 موجوداتها من الدولار الأمريكي من 61 في المائة إلى 69 في المائة، كما أن الكميات الهائلة من مبيعات الخزانة الأمريكية خارج لندن نسبت إلى مستثمرين عرب. وتتناقض هذه المواقف بصورة مذهلة مع موقفي اليابان والصين اللتين تخلتا جزئياً عن برامج دعم الدولار، حيث أبقتا على استقرار موجودات خزانتيهما وأحجمتا عن شراء الدولار بالكميات التي تعودتا على القيام بها في السابق.

غير أن الاهتمام بالذهب من جانب المستثمرين الخليجيين يتجلى في الصعود المثير للإعجاب لدبي كمدينة رئيسية عالمية في تجارة الذهب، فقد استوردت دبي في عام 2005 نحو 530 طناً من الذهب تزيد على 10 في المائة من الطلب العالمي. ويمكن القول إن مدينة دبي مرشحة مع إنشاء بورصة دبي للذهب لكي تصبح مركزاً دولياً رئيسياً لتجارة المعدن الأصفر، وتستفيد دبي من كونها تمثل نافذة ملائمة من حيث التوقيت بين قارتي آسيا وأوروبا، كما أن بورصة دبي للذهب ستكون البورصة الوحيدة في العالم التي تتيح القيام بتداولات يومي السبت والأحد، وهو ما يرجح ازدياد عدد المستثمرين الذين سوف تجذبهم دبي إلى بورصتها بفضل خدمات شبكة الإنترنت. ومن المزايا التي سوف تتمتع بها دبي أنها لن تحصر أعمالها في عقود تجارة عقود الخيارات الآجلة والمفتوحة مثلما هي حال طوكيو ونيويورك، بل سوف تدعم مركزها من خلال الاتجار الحيوي بالذهب الفعلي. وهي خطوة تزداد أهمية، لأن الثقة بالعقود الآجلة يمكن أن تخبو في ظل المتاعب التي تتعرض لها العقود العاجلة. وربما يتذكر البعض في هذا السياق ما حدث في عام 1980 عندما تخلت تعاقدات "كوميكس" في نيويورك عن التسليم الفعلي في عقود الفضة، عندما ارتفع سعرها إلى خمسين دولاراً أمريكياً في غمرة توقعات "الأخوان هانت" مؤسسة متخصصة في المضاربة على المعادن.

لكن دبي لا تستطيع الاعتماد إلى الأبد على البنوك المركزية الغربية من أجل سد الفجوة في العرض، وسوف يأتي وقت تكون فيه شركات المناجم هي المصدر الوحيد لتوفير العرض من الذهب.

وعلى دبي والمنطقة عموماً أن تفعل مثلما يفعل صاحب محطة الوقود الذي يعنيه بالطبع أن يعرف أحوال المنطقة التي يأتي إليه منها النفط الذي يبيعه، فعليها أن تقيم شبكات علاقات إنتاجية استثمارية في قطاع الذهب لتأمين العرض المستقبلي من هذا المعدن في بقعة تزداد ازدهاراً في مجال تجارة الذهب.

مدير البرنامج الاقتصادي
مركز الخليج للأبحاث – دبي

الأكثر قراءة