ضرورة اهتمام المراكز البحثية العربية بالشؤون العربية
من الملاحظ على أعمال ومطبوعات مراكز الدراسات السياسية والاقتصادية المتكاثرة هذه الأيام بصورة ملحوظة في معظم البلدان العربية تركزها حول القضايا الدولية والإقليمية أكثر من القضايا التي تمس الأوضاع الخاصة بتلك الدول، سواء كانت الداخلية أو الخارجية. ولقد ظل الاهتمام بتلك النوعية من الشؤون الخاصة بالبلدان العربية من قبل هذه المراكز تالياً دوماً لاهتمامها بالقضايا الدولية والإقليمية التي شكلت العصب الأساسي لعملها وربما سبب تأسيس معظمها. وقد ارتبط عدد كبير من تلك المراكز بدراسة المتغيرات التاريخية في مجرى الصراع العربي، الإسرائيلي والتطورات التي لحقت به خلال السنوات الأخيرة، مع مد ذلك الاهتمام لمستويات التفاعل الدولية والإقليمية ذات العلاقة بهذا الصراع. ولا شك أن الاهتمام البحثي والعلمي بقضايا العلاقات الدولية والإقليمية والتفاعلات المختلفة التي يعرفها النظام الدولي وخاصة في سنواته الأخيرة يعد أمراً مطلوباً من مراكز البحوث والدراسات العربية نظراً لتأثيراتها المباشرة على الأوضاع العربية الداخلية والخارجية، إلا أن تلك الأوضاع الأخيرة لها من الأهمية والخطورة خلال السنوات نفسها ما تستحق معه مزيدا من الاهتمام بها من جانب تلك المراكز.
وقد بدأت بعض تلك المراكز في الاهتمام بدراسة الأوضاع الداخلية والخارجية الخاصة بالبلدان العربية التي توجد بها بعد أن وقعت بها أحداث داخلية كبيرة وذات خطر على أوضاعها الداخلية وأمنها واستقرارها. وقد بدا واضحاً في تلك الحالات غير الواسعة الانتشار أن ما شهدته بعض الدول العربية من تفاعلات حادة ومؤلمة عرفها النظام السياسي والمجتمع على حد سواء كان هو الدافع الرئيسي لهذا الاهتمام الدراسي الجديد لتلك المراكز. إلا أن هذا الاهتمام المتصاعد بطيئاً بالقضايا الداخلية والخارجية للدول العربية في أعمال ونشاطات بعض المراكز الدراسية والبحثية يبدو اليوم - بعد مضي سنوات خمس من بداية القرن الواحد والعشرين ـ غير كاف ويحتاج إلى تطوير نوعي وأكثر انتظاما لأسباب عديدة. ولعل أول هذه الأسباب يتعلق بأدوار تلك النوعية من المراكز وضرورة مرونتها من أجل مواكبة المراحل الرئيسية التي يمر بها النظام السياسي والمجتمع في دولها. فعدد من تلك المراكز قام بما هو مطلوب منه من أدوار تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي ودراسته، حيث قدم مساهمات علمية وبحثية مهمة للصراع بمختلف مراحله وجوانبه. كذلك فمعظم تلك المراكز قد قدم مساهمات أخرى قيمة من أجل توفير الأساس العلمي لفهم وإدارة التفاعلات العربية مع المتغيرات الإقليمية والدولية الجديدة في مختلف المراحل منذ نهاية الحرب الباردة.
وإذا كانت هناك ضرورة لاستمرار اهتمام هذه المراكز بالشؤون الإسرائيلية وتطورات الصراع والسلام العربي، الإسرائيلي وقضايا العلاقات الدولية والإقليمية تحقيقاً للمصالح العربية فيها، فإن الإلحاح الذي باتت القضايا الداخلية والخارجية للدول العربية تطل به يفرض عليها اليوم أن توجه مزيداً من جهودها إلى دراستها والتعرف العلمي عليها. كذلك فإن الحجم المعقد والمتزايد الذي راحت تلك القضايا الداخلية والخارجية، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تتخذه يوماً بعد آخر يجب أن يضعها حالياً على قمة جداول العمل البحثي لتلك المراكز. وليس هناك من شك من جهة أخرى أن دخول تلك النوعية من القضايا ضمن الإطار الواسع لاهتمامات تلك المراكز بالقضايا السياسية والاستراتيجية يعد أمراً منطقياً حيث لم تعد تلك القضايا تقتصر في عالمنا المعاصر على الشؤون العسكرية أو الخارجية فقط بل امتدت لتشمل الهموم والقدرات الداخلية للدولة وعلاقتها الخارجية.
من هنا تأتي أهمية تركيز المراكز البحثية العربية على السياسات الداخلية والخارجية المباشرة للدول العربية وضرورة سعيها إلى تخصيص مزيد من الموارد المادية والبشرية لتحقيق هذا الغرض. وفي هذا الإطار يبدو مهما أن تسعى تلك المراكز إلى تأسيس وحدات وفرق بحثية متخصصة بها في تلك النوعية من القضايا وأن تقوم بإصدار دوريات ومطبوعات متخصصة لدراستها وبحث مختلف الجوانب المتعلقة بها. والمفهوم المركزي الذي يجب أن يقف وراء هذه المساعي الجديدة هو بذاته المفهوم الدائم لأي مركز علمي للدراسات السياسية والاستراتيجية، أي السعي للاستعانة بالمناهج المختلفة للعلوم الاجتماعية والإنسانية، وفي القلب منها العلوم السياسية، من أجل دراسة القضايا الأساسية ذات التأثير على حاضر البلاد ومستقبلها. وليس مطلوباً من المراكز البحثية العربية في هذا الإطار أن تدعي حياداً علمياً، غير ممكن واقعياً ولا علمياً، فهي ستهدف من وراء هذا السعي الجديد إلى المساهمة في توفير أفضل البدائل العلمية والعملية التي تحقق آمال شعوب بلدانها في التنمية والعدالة والديمقراطية والدور العربي والإقليمي المتميز. والمستقل، أو بصياغة أخرى في تحسين أحوال تلك الشعوب على وجه العموم. وفي سعي تلك المراكز لتحقيق هذا الغرض، أي التحليل العلمي لهذه الأحوال السياسية المختلفة والمتنوعة، فعليها أن تتوخى أن يتم ذلك ضمن اقتراب منهجي مركب يتسم بكونه مقارناً ونقدياً ودينامياً وحديثاً ومتعدد العلوم في الوقت نفسه. أما عن أغراض تلك النشاطات البحثية الجديدة المقترحة للمراكز البحثية العربية، فإن أولها هو الحصول على المعلومات الدقيقة التفصيلية المتعلقة بأوضاع دولها الداخلية والخارجية وعرضها وتصنيفها وتنظيمها بصورة تسمح بعد ذلك بإعمال النظر النقدي والتحليلي فيها دون ضياع الجهد في البحث عن تلك المعلومات أو التثبت من صحتها أو دقتها. كذلك فإن من صلب أغراض تلك النشاطات تقديم إضاءات تحليلية للجوانب المعتمة وغير المعروفة من هياكل وآليات وتفاعلات الحياة السياسية الداخلية والخارجية في هذه الدول وتقديم دراسات جديدة وجادة للجوانب الأخرى التي لم تحظ حتى الآن سوي بضجيج إعلامي عال دون النفاذ إلى أعماقها الحقيقية. ولما كان هذا المجال للدراسات يتسم حتى اليوم بالضعف النسبي والتراكم غير المنتظم، فإن من أهداف تلك النشاطات الجديدة للمراكز البحثية العربية المساهمة في دعم ذلك التراكم على أسس منهجية منظمة، فضلاً عن الأمل في أن تصبح هي بذاتها النواة التي تتكون حولها جماعات علمية وطنية متخصصة في هذه النوعية من الدراسات بدلاً من تركها حكراً على الباحثين الأجانب بكل ما يقعون فيه من أخطاء، عمداً أو جهلاً، في فهم حقيقة ما يحدث داخل بلداننا العربية.