مبدأ الحرية الاقتصادية وحدود تدخل الدولة!
يرى المفكر ريمون أرون وآخرون، أن الرأسمالية هي النظام الصناعي المعروف بالبلدان الرأسمالية والذي يتميز بسمات أساسية تُضفي عليه جلالة ومهابة. فالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، التوازن غير القائم بين الاستهلاك والإنتاج والذي يتلاشى بالتدريج، الانفصال التام بين أصحاب العمل والعمال، الربح، وحيث إن توزيع الدخل غير محدد بطريقة منظمة لذلك نجد تفاوت الأسعار من سوق لآخر.
يتفق طلاب الفكر الاقتصادي أن النظام الرأسمالي الحالي مر بثلاث مراحل تاريخية، مفصلية، ومهمة في تقدمه وتطوره. المرحلة التجارية وفيها ارتفع نمو التجارة الخارجية في القرن الـ 18 ما أدى إلى تراكم الثروات، حيث تم تمويل الصناعات الرأسمالية وأسهم في حركة الكشوف العلمية والاختراعات وتطبيقاتها. أما المرحلة الصناعية ففيها تطورت القطاعات الصناعية الخفيفة للسلع الاستهلاكية، حيث أدت إلى زيادة الطلب على الصناعات الثقيلة المنتجة والتي أخذت مكانتها وتأثيرها في الاقتصادات الرأسمالية. والمرحلة الأخيرة انتهت بتطور الرأسمالية المالية، حيث التركيز المالي والمصرفي في عدد قليل من المصارف الكبيرة، وكما ظهرت الاحتكارات الكبير المتمثلة في الشركات الصناعية الضخمة كالحديد والصلب والسيارات.
للأزمة الاقتصادية أسبابها المرتبطة بالمرحلة التاريخية التي سلكها النظام الرأسمالي، ففي كل مرحلة هناك أسباب تؤدي إلى حدوثها. فهذه الأزمات متعددة الأسباب فمرة نقدية ومالية وتارةً متعلقة بموازين المدفوعات من عجوزات وأسعار صرف. تكرار هذه الأزمات على مدى تاريخ النظام وآخرها هذه الأزمة المالية، يؤكد لأولي النُهى أن هناك مشكلات تمس هيكل النظام الرأسمالي أو طبيعة أدائه، أي السياسات التوسعية لهذا النظام، ولهذا فقد يجتمع أكثر من عامل ليكون سببا ما في حدوث هذا الخلل أو ذاك.
من الانتقادات الحادة للتحليل الكينزي من قِبل معارضيه، خاصةً المدرسة النقدية، دعوته لتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، حيث إن تعاظم دور الدولة سيزيد من الإنفاق الحكومي الذي يتم تمويله عن طريق إصدار النقد وزيادة الضرائب. وحدث أن أدت زيادة الضرائب على الدخول والرساميل إلى التأثير السلبي في القرارات الاستثمارية وزيادة الإصدار النقدي إلى ارتفاع معدلات التضخم. كما أن تدخل الدولة لضمان التوظيف أدى إلى زيادة نفوذ النقابات العمالية ما جعلها في موقف تفاوضي أفضل. إذاً موقف كينز يرى فيه أن على الدولة وضع السياسات المناسبة بحيث يتم تأمين النقد اللازم للتداول من جهة وتحتفظ بسعر الفائدة عند مستوى متدنٍ جدا كعلاج لتفضيل السيولة والذي سيؤدي إلى تحفيز النشاط الاقتصادي. موقفه جعله عرضة للهجوم الشديد كونه يرى إن النظام الرأسمالي يميل إلى عدم الاستقرار والنزوع نحو الركود في استخدام الموارد البشرية والاقتصادية.
في السنوات الأخيرة شاع بين دعاة السوق، أن التدخل الحكومي غير مجدٍ ومفيد، وقد غذت النظرية الاقتصادية الجزئية هذا التوجه الصارم وغير القابل للنقاش من منظور "دعه يعمل.. دعه يمر". على الجانب الآخر هناك من ينادي بهذا التدخل ولو جزئياً من منطلقات اجتماعية ودينية، حيث الرؤية تنصب على الدور الفاعل للدولة خاصةً في ظل الأزمات. لا بل وحتى في أروقة الجامعات تعلم أبناء التخصص كيل المديح لنظام السوق دون النظر إلى الإرث المتمثل في القوى الاحتكارية، تأثير القوى الاقتصادية الخارجية، نقص المعلومات المتاحة للمستهلك، وعدم القدرة على توفير السلع العامة بالقدر الكافي وللجميع. وضخموا الدور السيئ للدولة مثل سياسات الدعم الزراعي، الحد الأدنى للأجور، والتحكم في تسعير بعض السلع....إلخ.
الرأسمالية هي عبارة عن نظام دينامي ومتجدد يتكيف مع الظروف المحيطة به. وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة التي خاضها هذا النظام من الكساد الكبير إلى الانهيارات البنكية المتكررة مرورا بالأثنين الأسود إلا انه يتجدد مستفيدا من العبر والتجارب التي مر بها. ففي النهاية وطالما أن هذا النظام يدفعه السلوك البشري وبما تُمليه مصالحهم وغرائزهم، الأرباح، إلا أنها ستدفع هذه المرة ثمنا باهظاً وستُضفي عليها هذه التجربة شكلاً جديداً. فلن تفلت من رقابة الدولة وتدخلاتها والتي بالتأكيد ستجلب مزيداً من التشوهات لهذه الأسواق الحرة.
لعل من بعض الدروس المُستفادة من هذه التجربة الفريدة من نوعها والخطيرة ما يتعلق بالشأن المحلي. فالحكمة العربية القديمة الجديدة تقول "احفظ قرشك الأبيض ليومك الأسود " يندرج تحتها الكثير المناسب خاصة من قبل الدولة. وضع استراتيجية عُليا للاستثمار بحيث يتم اختيار المجالات المناسبة سواء كانت في الداخل أم الخارج من حيث الإمكانات والموارد المتاحة وعلى وجه الخصوص ما يتعلق منها بالاستثمار المخصص للأجيال المقبلة. التأكيد والاهتمام بتطوير أدوات استثمارية محلية وتفعيلها سواء في سوق الأسهم أو العقار وكذلك العمل على تطوير قنوات جاذبة محلية جديدة بحيث تكون على مستوى عالٍ من الشفافية. من المؤكد توجد فرصة ذهبية للدول الخليجية مجتمعة وعلى رأسها المملكة للصعود الاقتصادي والسياسي لمنبر العالمية، وكنتيجة لهذه الأزمة فمن الممكن تشكيل كيان كبير ذي نفوذ عالمي مستندا إلى قاعدة اقتصادية ومالية صلبة وفرض نفسه على المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمشاركة في صنع قراراتهما مقابل الإسهام في تخفيف آثار هذه الأزمة العالمية بدلا من الشكوى الدائمة من ظلم الغير.
أما فيما يتعلق بالشأن الدولي، فتطوير نظام مالي عالمي من قبل الحكومات مجتمعة أصبح ضرورة ملحة يشارك فيها الجميع، بحيث يكون هناك تنسيق عال بين الدول فيما يتعلق بالسياسات النقدية ذات التأثير المُتبادل بين بعض الدول، كما أن وجود نظام صارم على حركة الرساميل المضاربية بين الدول والشفافية من الأهمية بمكان.
المشكلة ليست في نظام السوق لكن في الرأسماليات التي نشأت وترعرعت في كنفه كالرأسمالية الأمريكية والتي تتسم بالجشع والتي لم تلقِ بالاً للمؤشرات الخطيرة التي دقت ناقوس الخطر و آذنت بحدوث مثل هذه الأزمة. هناك رأسمالية تحمل بعض الخصائص الاشتراكية، كما في الصين والتي حققت معدلات نمو عالية وازدهار اقتصادي غير مسبوق. أيضا هناك الرأسمالية اليابانية ذات الصبغة القومية والتي أدخلت على الرأسمالية الموروثات الاجتماعية مثل الولاء للعمل والانضباط والتفاني من أجله. فالرأسمالية على أية حال لم تمت كما نعاها البعض، فهي من القدرة على التكيف وتجاوز الأزمات، كما حصل في امتحانات سابقة على المستوى نفسه أو أكبر.
إن تحديد الاتفاق في الرأي لم يكن أبداً من دون ألم، لذا علينا التيقظ من إطلاق العنان لرغباتنا في الكلام غير المسؤول عند مقارنة الرأسمالية بأي نظام آخر كون المنطلقات والثوابت مختلفة تماماً، وعليه لنوقد شمعة بدلاً من أن نلعن الظلام.
أكاديمي واقتصادي سعودي
[email protected]