ليس لدي حلم اليوم!.
" لدي حلم اليوم"
داعية الحقوق المدنية الأمريكي مارتن لوثر كينج
لو كنت قريبا من الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما، لقلت له: ابدأ خطابك الأول بعد أن تحقق فوزك في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بجملة تستكمل بها التعبير الشهير الذي أطلقه داعية الحقوق المدنية الأمريكي مارتن لوثر كينج في عام 1963. ماذا قال: "لدي حلم اليوم أن يعيش أطفالي الأربعة في مجتمع لا يحكم عليهم من خلال لونهم". وقال أيضا: " لدي حلم اليوم أن يجلس أولاد العبيد السابقين، مع أولاد مالكي العبيد السابقين على طاولة واحدة". وقال أيضا وأيضا:" لدي حلم اليوم أن تتحول ولاية ميسيسيبي المليئة بالكراهية إلى العدالة، إلى واحة للحرية والمساواة". لو كنت قريبا إذا من أوباما لقلت له: استهل خطابك بـ " ليس لدي حلم اليوم"، أو أن "الحلم قد تحقق".
نعم لقد تحقق الحلم، إلا أن هذا لا يعني أن الانقسامات العنصرية قد انتهت بمجرد انتخاب رئيس أسود البشرة. لكن هذا التحول التاريخي أثبت أن الولايات المتحدة يمكن أن تتغير، ويمكن أن تصل اجتماعيا إلى "واحة المساواة" التي حلم بها كينج. هذا التحول التاريخي في انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة، لا يمكن أن يلغي عاملا طارئا مهما، ساهم في دعم وصول أوباما إلى قمة هرم السلطة في واشنطن، بفوز كاسح ليس فقط على مستوى الرئاسة، بل أيضا في الكونجرس الذي حصد الحزب الديمقراطي غالبية المقاعد فيه. العامل الطارئ هذا، هو ببساطة الأزمة المالية الأمريكية التي تداعت لتتحول إلى عالمية، ومنها أصبحت أزمة اقتصادية دولية. فقد أجمعت استطلاعات الرأي الرصينة في الولايات المتحدة، على أن 60 في المائة من الناخبين منحوا أصواتهم لأوباما بسبب الوضع الاقتصادي المتردي. ولاسيما بعد أن أوصلت إدارة الرئيس جورج بوش البلاد إلى أسوأ حالاتها الاقتصادية، لدرجة فقدت فيها هذه الإدارة السيطرة على توجيه الاقتصاد، وأصبحت طوال الأشهر القليلة الماضية، مجرد حكومة تمارس ردود الفعل، على فعل ليست قادرة على احتوائه.
قبل أسبوعين كتبت هنا عن مدى استفادة المرشح – وقتها – أوباما من الأزمة الاقتصادية الراهنة. والواقع أن هذا الأخير كان المستفيد – ربما الوحيد - في هذا العالم منها. لأن طروحاته المتوائمة مع أيديولوجية حزبه الديمقراطي، اقتربت إلى أقصى درجة من الطبقتين المتوسطة والدنيا. بالإضافة طبعا إلى اقترابها من شريحة الشباب (الأبيض والأسود). فعندما تقع الكارثة تختفي كل الألوان، وعندما تدب المصيبة تستحضر الوحدة والعمل من أجل التماسك المعيشي، خصوصا في ظل وجود إدارة اهتمت بالنخبة، أكثر من اهتمامها بالمجتمع، ووظفت قدراتها على تخفيف الكارثة، بدلا من وضع الحلول السريعة للقضاء عليها. ودخلت هذه الإدارة في نفق، ترى ضوءا في نهايته، لكنها لا تعرف كيف تصل إليه. إدارة راكمت الخطأ، ولم تخلق آليات للتصحيح. إدارة قدمت خطة إنقاذ للمؤسسات المالية بـ ( 700 مليار دولار أمريكي )، ولم تضع ضمن أولوياتها مصالح الفرد الأمريكي. وهذه النقطة بالذات منحت أوباما نقاطا انتخابية، لم يتوقعها الحزب الجمهوري خلال الحملات الانتخابية. فقد أصر الحزب الديمقراطي من خلال الكونجرس على رفض تمرير الخطة، في قراءتها الأولى، قبل أن تضيف إدارة بوش إلى أولوياتها مصلحة المجتمع ككل.
وإذا كانت تاريخية الانتخابات الأمريكية الأخيرة، تكمن في وصول رجل أسود لأب أفريقي مهاجر، فإن التاريخية الأخرى لها ترتبط بزخم أصوات الناخبين، أكثر من زخم نفوذ المؤسسات المالية فيها. وقد كرست أيضا المبدأ الانتخابي النزيه، المتمثل بـ "رجل واحد صوت واحد". ولذلك فإن الأزمة المالية (الاقتصادية)، ساعدت على تطوير الآليات الانتخابية. فلم يشفع للمرشح الجمهوري المهزوم جون ماكين، إعلانه خلال الحملة الانتخابية، بضرورة تأجيل فعاليات الحملة، للتفرغ لمعالجة الأزمة الاقتصادية داخليا. فالناخب الأمريكي الذي أظهر لأول مرة بعض النضوج السياسي، اقتنع تماما بأن سياسة ماكين الاقتصادية، لن تكون مختلفة عن تلك التي يتبعها جورج بوش. بل لنقل ليست مختلفة عن تلك السياسة التي باتت هي المحرك للإدارة الأمريكية، وليس العكس.
ومن هنا .. وجد الناخب الأمريكي أن الخلاص لن يأتي من خطة الـ ( 700 مليار دولار ) التي خصصت للإنقاذ المالي، بل من سياسة اقتصادية ترتكز إلى قيم المجتمع واحتياجاته. وعلى النمو الإيجابي، لا السلبي. لأن النمو لمجرد النمو مثل الخلايا السرطانية التي تنمو لمجرد النمو أيضا. ووجد الناخب.. الثماني سنوات الماضية التي حكم الجمهوريون فيها البلاد، وإن شهدت انتعاشا اقتصاديا واضحا في فترة من الفترات، إلا أنها واجهت "انكسارا" اقتصاديا في أهم الفترات، وألقت بالملايين من الأمريكيين خارج منازلهم، لأنهم كبلوا بالديون، ولم يستطيعوا دفع أقساط منازلهم. وهذه النقطة بالذات، وفرت وقودا انتخابيا كبيرا لباراك أوباما. فالرجل كان واضحا خلال حملته الانتخابية – ولم يخف من نفوذ المؤسسات – عندما وضع من ضمن أهدافه، هدفا شعبيا – لا نخبويا- يتمثل بمساعدة الطبقة المتوسطة تحديدا، للخروج من محنة القروض السكنية، بحيث تتمكن من سداد التزاماتها المالية، وقبل هذا وذاك البقاء في منازلها معززة ومكرمة.
كل الرؤساء الأمريكيون يدخلون التاريخ دون أدنى جهد. فموقعهم تجلله الحالة التاريخية. وإدارة الرئيس بوش دخلت التاريخ والبيت الأبيض معا، لكنها ستخرج من الباب الخلفي. ليس فقط لأنها أدخلت البلاد في دوامة من المشاكل الخارجية والداخلية، بل لأنها أفرغت المجتمع من قيمه، عبر السياسات الاقتصادية الزاخرة بالمادية.
لا أعرف كيف سيخرج أوباما أسود البشرة من البيت الأبيض، لكن الواضح تماما أنه سيدخله متسلحا بوعد أبيض للناخب الأمريكي، الذي وجد فيه منقذا، عندما هرب المنقذون بقوارب النجاة.