رأسمالية جامحة .. اهتزاز هيكل اقتصاد (اللا ضوابط)

رأسمالية جامحة .. اهتزاز هيكل اقتصاد (اللا ضوابط)

السوق وحدها ولا الدولة ولا ضماناتها هي الطريق إلى الأمان ومن ثم إلى البحبوحة وزينت للمعدمين الثراء السريع الذي روج له رونالد ريجان في الولايات المتحدة ، ومارجريت تاتشر في بريطانيا خلال السنوات الأخيرة من عمر الحرب الباردة إلا أن هذه الأفكار بدأت تتهاوى الآن ويدفع العالم ثمنها باهظا، لكن الغريب في اعتراف آلان جرينسبان رئيس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) السابق في 26/10/2008 جاء مخالفا لما يعرفه فقال (إنني أخطات قراءة مؤشرات الخطر ... ( تسونامي مديونية يحدث في القرن مرة) .
والأزمة الحالية نشأت داخل النظام المالي في حد ذاته، ولم تكن عوامل خارجية أفقدتها توازنها وإنما أسواق المال دائما ما تزعزع استقرارها ذاتيا.
وهي عادة ما تميل إلى عدم التوازن وليس إلى التوازن على عكس نظرية السوق التي يعتقد البعض أنها تصحح نفسها رغم أن هذه النظرية فيها نظر باعتبار أن قوى السوق صماء وأثبتت فشلها في الأزمة الحالية، بل يمكن للذعر وحده أن يتسبب في انهيار أفضل البنوك .
وتنعكس أزمة أسواق المال على الاقتصاد الحقيقي وليس العكس، ويكفي أن أسواق المال تتميز بتتابع ازدهار وانهيارات وفقاعات بل أصبحت مستوطنة في النظام المالي العالمي، والإشكالية ليست في فقاعة العقار التي فجرت الشرارة ، بل الإشكالية في الاستخدام المتزايد للائتمان والاعتماد على الديون مع الاعتقاد أن الأسواق تصحح ذاتها، وانتظرت مدة 25 عاما، ولكنها وصلت إلى ذروتها الآن، ولكن يتساءل كثير من المحللين والاقتصاديين: لماذا تدخل "الاحتياطي الفيدرالي" ( البنك المركزي الأمريكي ) والخزانة قبل ستة أشهر من شهر آذار (مارس) 2008 لمنع (بير شتيرنز) أكبر وسيط أسهم في الولايات المتحدة من تقديم طلب إعلان الإفلاس لكنه امتنع في 15 أيلول (سبتمبر) عن إنقاذ "ليمان برازدر" مؤسسة (وول ستريت) التي يعود تاريخ تأسيسها إلى 158 عاما بتقديم طلب إعلان إفلاسه، وأصبحت سندات الدين التي أصدرها وقيمتها الاسمية 785 مليون دولار صفرا، ودفع قيمة الأصول في الصندوق إلى أدنى من قيمة السهم الاسمية البالغة دولارا واحدا، تسبب هذا في ظهور فزع مالي جعلت زعماء العالم كما يبدو مذعورين للغاية.
وبعد أن كانت صناديق أسواق المال ترتكز في شعبيتها على سمعتها في كونها آمنة في الغالب مثل ودائع البنوك، فثبت أن لهذه المخاوف أساسا منطقيا, وعندما انتشر خبر مأزق الصندوق الاحتياطي هرب المستثمرون ولم يأت نهاية أسبوع إعلان الإفلاس حتى تم سحب أكثر من 200 مليار دولار من صناديق أسواق المال، بل وصلت بسرعة مذهلة فيما بعد إلى 400 مليار دولار، ولم تفلح تطمينات المسؤولين، جعل هذا التحول الصناديق ترزح تحت ضغوط كبيرة للبيع إلى أسواق غير سائلة لمجرد ضمان أن تكون لديها سيولة كافية لكي تدفع للمستثمرين الذين يسحبون أموالهم.
ويشير بعض المحللين إلى أن تعثر بنك ليمان في السداد يرجع إلى التكلفة المرتفعة للتأمين في سوق المشتقات الائتمانية مقابل تلك الحتمية.
وأثر انسحاب المستثمرين في تلك البنوك لأنها تعتمد في الغالب على تمويل البيع الشامل, وهي مجموعة تتضمن عديدا من البنوك الأوروبية.
وكانت مخاطر انهيار البنوك تحت ضغط ثقل الأوراق المالية المدعومة بالقروض العقارية غير السائلة، والمبالغ في تقييمها قد أدت إلى حدوث أزمة تمويل تمت برهنتها بمصير بنك (بير شتيرنز).
بل مارست شركات وسيطة كبرى في (وول ستريت) تجارتها الضخمة في الملايين من تداولات المشتقات التي تتمثل في العقود من التحوطات الأساسية على أسعار النفط وتحويلها إلى أوراق الدين المهيكلة المعقدة, والتي تسببت نفسها في ارتفاع أسعار النفط، وحينما أصرت الولايات المتحدة على تفكيك هذا النوع من التداول لمنع ارتفاع أسعار النفط ساور المنظمون القلق من أن حل مثل هذا النوع من التداول سيسهم في سقوط النظام المالي.
وأضر بنك ليمان بحملة السندات الخاصين به لأنه كان مقرضا كبيرا للغاية ووجود 130 مليارا على شكل ديون معلقة، واتخذت الخسائر على السندات شكل الدوامة، فبعدما كان يتم تداولها بقيمة 95 سنتا على الدولار انخفضت إلى أقل من عشرة سنتات. وحتى الآن لم يفهم كثير من الأشخاص تداعيات تعثر بنك ليمان عن السداد.
ونتيجة تشتت البنى التحتية القانونية في أوروبا إلى جانب الاختلافات في قوانين الإفلاس مع الولايات المتحدة جعلت عديد من الخبراء متشككين إزاء كيفية سير قضايا الإفلاس.
الحكومة في حاجة إلى مئات المليارات من الدولارات لإصلاح النظام المالي, خصوصا في ظل تزايد نفقات الحروب التي يشنها بوش نظرا إلى توسع العمليات القتالية في أفغانستان, التي تكلف 11 مليار دولار في الشهر الواحد. كما تزايدت نفقات إعانات البطالة والمعونات الغذائية وسائر المعونات الفيدرالية.
فدفع فاتورة الخسائر عبر اقتراض الأموال بدلا من تخفيض النفقات أو زيادة الضرائب، وأن عجزا يساوي 5 في المائة من ناتج مقداره 14 تريليون دولار ليس بالكبير جدا، فعملية إنقاذ البنوك وشراء حصص للحكومة في تسعة بنوك، وضخ 250 مليارا لتأمين السيولة، وستقدم الحكومة الفيدرالية أيضا 150 مليار دولار كمجموعة مقترحات محفزة قبل تولي الرئيس الجديد.
والحصة المحتفظ بها داخل أمريكا وخارجها في شكل سندات خزانة تبلغ نحو 5.8 تريليون دولار بنهاية أيلول (سبتمبر) 2008 بنسبة 40.8 في المائة من الدخل القومي انخفضت النسبة من 50 في المائة إبان التسعينيات، ومن 109 في المائة إبان الحرب العالمية الثانية, أي لا تزال الولايات المتحدة والدولار في وضع متميز ودور بارز.
ورغم اتجاه الاقتصاد الأمريكي نحو الركود إلا أن البعض من خلال خبرة الـ 60 عاما الماضية يرون أنه في غضون عام أو اثنين سينتهي هذا الركود وسيوسع الدخل القومي وسيتقلص حينها الدين القومي لأن الدين القومي مقارنة بالنشاط الكلي ليست مرتفعة على نحو تاريخي والبالغ حاليا 5.8 تريليون دولار بعدما زادت الحكومة الفيدرالية الدين القومي 768 مليار دولار على مدار العام الماضي. أما نسبة الديون الأمريكية كحصة من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 1980 و2007 كمقياس لمدى مديونية القطاع فقد قفزت من 21 في المائة إلى 116 في المائة، فالشرايين أصبحت مسدودة بالديون السيئة.
بينما يخشى البعض الآخر أن تستمر الأزمة لفترة أطول مثلما استمرت الأزمة في اليابان عندما بدأت عام 1989 ووصل مؤشر سوق الأسهم حينها إلى 39 ألفا انخفض إلى أقل من ثمانية آلاف نقطة الآن، وتشاؤم هذا الفريق يستند إلى عامل الارتفاع القوي في سعر الدولار الذي يحد من الصادرات الأمريكية التي شكلت محرك الاقتصاد الأول في العالم في الأشهر الماضية في وقت تعاني فيه أساسا تباطؤ النشاط الاقتصادي في العالم، فارتفع سعره 20 في المائة مقابل اليورو وبنسبة 20 في المائة أيضا مقابل الجنيه الاسترليني باستثناء الين الذي ارتفع أمام الدولار 12 في المائة ما يهدد صادرات اليابان أيضا, وفي الوقت نفسه يثير بعض الشكوك بشان احتمال اتخاذ إجراء منسق.
وكان الأمريكيون في حاجة إلى دولار ضعيف لمواجهة الصين لأن صادراتها إليها لا تتعدى خمس وارداتها منه، فقد بلغت هذه النسبة في آب (أغسطس) 2008 6.5 مليار دولار مقابل 31.8 مليار دولار، بينما صدرت الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي في آب (أغسطس ) 2008 نحو 23.6 مليار دولار متراجعا من 23.8 مليار دولار في تموز (يوليو), وأدركت الصين القلق الأمريكي تجاهها فرفعت اليوان في السنوات الأخيرة 7 في المائة منذ مطلع العام، أما الولايات المتحدة فقد خفض البنك المركزي الفائدة بواقع نصف نقطة في 29/10/2008 لتصل إلى 1 في المائة وهذه هي المرة التاسعة التي يقوم فيها البنك بتخفيض أسعار الفائدة منذ أيلول (سبتمبر) من السنة الماضية, حيث كانت أسعار الفائدة 5.25 في المائة انتعشت الأسواق العالمية مباشرة وانخفض الدولار وسجل أكبر تراجع منذ 23 عاما، وستتبع بقية البنوك الأخرى البنك المركزي الأمريكي في اليابان والاتحاد الأوروبي، وخفضت الصين في اليوم نفسه الذي خفض فيه البنك المركزي الأمريكي الفائدة للمرة الثالثة خلال شهرين.
الاقتصاد الحقيقي عالق في دوامة الأزمة المالية، والخطر على الصادرات الأمريكية في المستقبل القريب لا يكمن في العملة بل في تباطؤ الاقتصاد العالمي، وفي مطلق الأحوال لم تعد الولايات المتحدة تعتمد كثيرا على باقي العالم مثل الصين التي ولدت الاستثمارات والصادرات الصافية نحو ثلاثة أرباع الطلب الإضافي للصين خلال السنوات الأخيرة، وستعمل هذه الأزمة على إبطاء الاثنين ستصاب الصادرات مباشرة وتصاب الاستثمارات بصورة غير مباشرة لذلك أدركت الصين إجراء تحول في ميزان الاقتصاد وأنه يتعين عليها أن تولي قدرا أقل من التركيز على الاستثمار في الصادرات قليلة التكلفة والتركيز أكثر على الاستهلاك والخدمات والابتكارات والآن هذا التحول لا يمكن تأخيره أكثر من ذلك.
أما الهند فإنها نظرت إلى الأزمة على أنها تحذير وسعت إلى زيادة جهودها لخفض الاعتماد على الشركات الأوروبية والأمريكية وأن تزيد بصورة جزئية المنتجات المتطورة والخدمات والتحرك لما وراء السلع رخيصة التكاليف, ومن المعروف أن 60 في المائة من الأعمال الخارجية التي تقوم بها الشركات الهندية لصالح شركات أجنبية تأتي من الولايات المتحدة, وأن 40 في المائة من حجم الأعمال التي ترد إلى تلك الشركات يكون في قطاع البنوك والتأمين والخدمات المالية، ولا بد من التطلع إلى جهات أخرى من العالم كاليابان والشرق الأوسط وبلاد الشمال.
ولن تنفصل الاقتصادات الناشئة عن الارتباط بالولايات المتحدة وهو أمر غير مفاجئ، فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ينتجان 54 في المائة من الإنتاج العالمي و62 في المائة مع اليابان والاتحاد الأوروبي مع الـ 16 الآسيوية تمثل 60 في المائة من إجمالي الناتج العالمي, أي أن تلك الدول المتقدمة والناشئة تنتج أكثر من 90 في المائة من الناتج العالمي.
لكن إذا أردنا أن نقيم محاكمة للمتسببين في هذه الأزمة، فمن هم الجناة الذين سيقدمون للمحاكمات؟ هل هم أصحاب المنازل العاجزون عن السداد؟ أم السياسيون؟ أم الجهات الرقابية في كل مكان؟ أم الجشعون ؟ أم آلان جرينسبان رئيس "الاحتياطي الفيدرالي" الأمريكي السابق الذي كان على علم بالمشتقات المالية ووافق عليها لأن خسائرها سيتحملها العالم وليس أمريكا لكن انقلب السحر على الساحر, خصوصا أنه وافق على استخدام حيل مالية لتحويل عمليات الإقراض المتهورة إلى أوراق مالية من فئة AAA مستفيدا من تدفق الأموال الأجنبية إلى أمريكا ؟ ولكن لماذا كانت أوروبا تشتري بشراهة سندات الرهن السامة ومقايضات الائتمان المعتمة التي أصابت النظام المالي العالمي؟ أسئلة كثيرة ومحيرة يحتاج العالم المتحضر إلى وقت طويل من الزمن ليجيب عنها، ولكن من يحاكم القاضي الذي يصدر الأحكام ؟ إذاً فالمصيبة أدهى وأمر.

Dr_mahboob12hotmail.com

الأكثر قراءة