تشنيع الشرع على بعض العرب لوأدهم بناتهم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فقد كان أهل الجاهلية قبل الإسلام يبخسون المرأة حقها، وورد ذلك في صور متعددة، منها أن المرأة كانت لا ترث في الجاهلية، فنزل قوله تعالى "لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا".
بل كانت المرأة في الجاهلية يهبها أبناء زوجها لمن شاءوا، فنزل قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ..." الآية.
وكانت البنت في الجاهلية لا تلقى من العناية ما يلقاه أخوها الذكر، ومن هنا بينت الشريعة عظم أجر تربية البنات، وسأذكر هنا عددا من الأحاديث النبوية في ذلك.
فعن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار"، أخرجه مسلم.
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه". أخرجه مسلم.
وأخرج أحمد والطبراني عن أم سلمة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن أنفق على ابنتين أو أختين أو ذواتي قرابة يحتسب النفقة عليهما حتى يغنيهما من فضل الله أو يكفهما كانتا له سترا من النار".
وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب عن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يكون له ثلاث بنات فينفق عليهن حتى يبن أو يمتن إلا كن له حجابا من النار، فقالت امرأة أو بنتان فقال أو بنتان".
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: دخلت علي امرأة ومعها بنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئا سوى تمرة واحدة فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم قامت وخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار.
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن عال جاريتين حتى تبلغا دخلت أنا وهو في الجنة كهاتين".
وأخرج ابن أبي شيبة وابن حبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن عال ابنتين أو ثلاثا أو أختين أو ثلاثا حتى يمتن أو يموت عنهن كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة".
وأخرج البزار عن أبي هريرة قال" : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلم له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة، ومن سعى على ثلاث بنات فهو في الجنة وكان له كأجر مجاهد في سبيل الله صائما قائما".
وأخرج بن أبي شيبة وأبو داود والترمذي وابن حبان عن ابن الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن. وفي لفظ فأدبهن وأحسن إليهن وزوجهن فله الجنة.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب والبزار والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن جابر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كن له ثلاث بنات يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن وينفق عليهن وجبت له الجنة البتة. قيل يا رسول الله فإن كانتا اثنتين قال وإن كانتا اثنتين، قال فرأى بعض القوم أن لو قال واحدة لقال واحدة.
وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن كن له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن وضرائهن وسرائهن أدخله الله الجنة برحمته إياهن، فقال رجل واثنتان يا رسول الله، قال واثنتان، قال رجل يا رسول الله وواحدة قال وواحدة".
وأخرج البخاري في الأدب والبيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن كان له ثلاث بنات فصبر عليهن فأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كن له حجابا من النار".
ومن صور ذلك ما كانوا يفعلونه من وأد البنات بدفنهن أحياء، وقد جاء الشرع بتغليظ تحريم فعل ذلك والتشنيع على مَن فعله من العرب وغيرهم، كما في قوله تعالى: "وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ، لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"، وقوله سبحانه "وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ".
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن وأد البنات.
أخرج أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن كانت له ابنة فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها، قال يعني الذكور، أدخله الله الجنة.
وقد ورد نسبة فعل وأد البنات لعدد من العرب في عدد من الروايات الثابتة، فعن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنها – قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والله ما فيكم أحد على دين إبراهيم غيري، وكان يحيى الموؤودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: مه لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤونتها. قال الذهبي: هذا حديث صحيح.
وقال ابن عباس الموؤودة هي المدفونة كانت المرأة في الجاهلية إذا هي حملت فكان أوان ولادها حفرت حفرة فتمخضت على رأس تلك الحفرة، فإن ولدت جارية رمت بها في تلك الحفرة، وإن ولدت غلاما حبسته.
قال ابن عباس رضي الله عنهما، فمن زعم أنهم في النار فقد كذب، بل هم في الجنة.
وروى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس "ويجعلون لله البنات، سبحانه ولهم ما يشتهون، ثم قال: وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم" 3 إلى آخر الآية، يقول: يجعلون لله البنات ترضونهن لي ولا ترضونهن لأنفسكم، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا ولد للرجل منهم جارية أمسكها على هون أو دسها في التراب وهي حية.
ثم قال حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله، وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، وهذا صنيع مشركي العرب، أخبرهم الله تعالى ذكره بخبث صنيعهم، فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه ولعمري ما يدري أنه خير لرب جارية خير لأهلها من غلام وإنما أخبركم الله بصنيعهم لتجتنبوه وتنتهوا عنه وكان أحدهم يغذو كلبه ويئد ابنته.
وقال النعمان بن المنذر في خطبته أمام كسرى: "وأما قولك أيها الملك يئدون أولادهم فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار وغيرة من الأزواج".
وقال قتادة: "وكان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه فعاب الله ذلك عليهم".
وقد تتابع كلام السلف والعلماء بنسبة هذا الفعل القبيح لبعض العرب، قال ابن كثير: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا"، أي كئيبا من الهم "وهو كظيم" ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن "يتوارى من القوم"، أي يكره أن يراه الناس "من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب"، أي إن أبقاها مهانة لا يورثها ولا يعتني بها ويفضل أولاده الذكور عليها، "أم يدسه في التراب" أي يئدها وهو أن يدفنها فيه حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية، أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله).
وقال مقاتل المتوفى سنة 150هـ: "وإذا الموؤودة سئلت"، يعني دفن البنات، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا ولدت له الابنة دفنها في التراب وهي حية، فذلك قوله صلى الله عليه وسلم "وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت"، سأل قاتلها بأي ذنب قتلها وهي حية لم تذنب فقط".
وقال النووي وأما وأد البنات بالهمز فهو دفنهن في حياتهن فيمتن تحت التراب وهو من الكبائر الموبقات، لأنه قتل نفس بغير حق، ويتضمن أيضا قطيعة الرحم، وإنما اقتصر على البنات، لأنه المعتاد الذي كانت الجاهلية تفعله".
وقال أبو عبيد هو من الموؤودة، وذلك أنهم كانوا يفعلون ذلك ببناتهم في الجاهلية كان أحدهم ربما ولدت له البنت فيدفنها وهي حية حين تولد، ولهذا كانوا يسمون القبر صهرا، أي قد زوجها منه.
وقال الشاطبي: وقد وقع القتل في العرب الجاهلية، ولكن على غير هذه الجهة هو قتل الأولاد لشيئين أحدهما خوف الإملاق والآخر دفع العار الذي كان لاحقا لهم بولادة الإناث حتى أنزل الله في ذلك قوله تعالى: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم"، وقوله تعال: "وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ"، وقوله: "وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا" الآية، وهذا القتل محتمل أن يكون دينا وشرعة ابتدعوها، ويحتمل أن يكون عادة تعودوها بحيث لم يتخذوها شرعة، إلا أن الله تعالى ذمهم عليها فلا يحكم عليها بالبدعة، بل بمجرد المعصية فنظرنا هل نجد لأحد المحتملين عاضدا يكون هو الأولى في حمل الآيات عليه، فوجدنا قوله سبحانه وتعالى: "وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ"، فإن الآية صرحت أن لهذا التزين سببين، أحدهما الإرداء وهو الإهلاك، والآخر لبس الدين وهو قوله "وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ"، ولا يكون ذلك إلا بتغيره وتبديله أو الزيادة فيه أو النقصان منه وهو الابتداع بلا إشكال، وإنما كان دينهم أولا دين أبيهم إبراهيم، فصار ذلك من جملة ما بدلوا فيه كالبحيرة والسائبة ونصب الأصنام وغيرها حتى عُدَّ من جملة دينهم الذي يدينون به، ويعضده قوله تعالى بعد "فذرهم وما يفترون"، فنسبهم إلى الافتراء – كما ترى – والعصيان من حيث هو عصيان لا يكون افتراء وإنما يقع الافتراء في التشريع نفسه في أن هذا القتل من جملة ما جاء من الدين، ولذلك قال تعالى على أثر ذلك "قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ" فجعل قتل الأولاد مع تحريم ما أحل الله من جملة الافتراء ثم ختم بقوله "قد ضلوا"، وهذه خاصية البدعة – كما تقدم – فإذا ما فعلت الهند نحو مما فعلت الجاهلية.
وقال أبو حيان في تفسير قوله تعالى: "قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِين"، كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم، وكان بعض ربيعة ومضر يئدونهن وهو دفنهن أحياء، فبعضهم يئد خوف العيلة والإقتار، وبعضهم خوف السبي، فنزلت هذه الآية في ذلك إخبارا بخسران فاعل ذلك.
وقال السهيلي: "خبر سوداء بنت زهرة، وذلك أنها حين ولدت رآها أبوها زرقاء شيماء أمر بوأدها، وكانوا يئدون من البنات ما كان على هذه الصفة، فأرسلها إلى الحجون لتدفن هناك، فلما حفر لها الحافر دفنها سمع هاتفا يقول لا تئدن الصبية وخلها في البرية، فالتفت فلم ير شيئا لدفنها، فسمع الهاتف يهتف بسجع آخر في المعنى، فرجع إلى أبيها فأخبره بما سمع إن لها لشأنا وتركها، فكانت كاهنة قريش فقالت يوما لبني زهرة إن فيكم نذيرة تلد نذيرا فاعرضوا على بناتكم فعرضن عليها، فقالت في كل واحدة منهن قولا ظهر حين عرضت عليها آمنة بنت وهب، فقالت هذه النذيرة أو تلد نذيرا وهو خبر طويل ذكر الزبير منه يسيرا وأورده بطوله أبو بكر النقاش".
وقال الخطابي: "وأنشد الباهلي: أراد ابن كوز والسفاهة كاسمها / ليستاد منا أن شتونا لياليا / تبغي ابن كوز في سوانا فإنه / غذا الناس مذ جاء الرسول الجواريا / يريد أنهم تركوا وأد البنات".
وقال ابن الأثير: "والذي يترجح عندي هو القول بفحوى المعنى المقدر وهو الذي يسميه الفقهاء مفهوم الخطاب وله في الشعر أشباه ونظائر، فمما ورد من ذلك شعرا قول جزء بن كليب الفقعسي من شعراء الحماسة وقد خطب إليه ابن كوز ابنته فرده:
(تبغي ابن كوز والسفاهة كاسمها ليستاد منا أن شتونا لياليا
فلا تطلبنها يا ابن كوز فإنه إذا الناس مذ قام النبي الجواريا)
وهذا البيت الثاني يشتمل على المعنيين التام والمقدر، أما التام فإن ابن كوز سأل أبا هذه الجارية أن يزوجه إياها في سنة والسنة الجدب فرده، وقال قد غذا الناس البنات مذ قام النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أيضا أغذو هذه ولولا ذلك لوأدتها كما كانت الجاهلية تفعل وفيه وجه آخر وهو أنهم كانوا يئدون البنات قبل الإسلام، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فقوله "غذا الناس مذ قام النبي الجواريا"، أي في النساء كثرة فتزوج بعضهن وخل ابنتي، وهذان المعنيان هما اللذان دل عليهما ظاهر اللفظ، وأما المعنى المقدر الذي يعلم من مفهوم الكلام فإنه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحياء البنات ونهى عن الوأد ولو أنكحتكها لكنت قد وأدتها، إذ لا فرق بين إنكاحك إياها وبين وأدها، وهذا ذم للمخاطب وهو معنى دقيق".
ومن الروايات الواردة في هذا ما أخرجه الإمام البخاري في الأدب عن يزيد بن عبد الله بن الشخير قال: حدثني نعيم بن قعنب قال لقيت أبا ذر فقلت له ما كان أحد أحب إلي لقاء منك ولا أكره إلي لقاء منك، قال وكيف يجتمع هذا؟ قال إني وأدت في الجاهلية فرجوت أن يرخص لي وخشيت أن يشدد علي، قال عفا الله عما كان في الشرك.
وأخرج الطبراني عن صعصعة بن ناجية المجاشعي، وهو جد الفرزدق، قال: قلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية، فهل لي فيها من أجر، قال وما عملت؟ قال: أحييت ثلاثمائة وستين موؤودة أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل، فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لك أجره إذ مَن الله عليك بالإسلام.
وأخرج البزار والحاكم في الكني والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في قوله "وإذا الموؤودة سئلت" "قال جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال إني وأدت ثماني بنات لي في الجاهلية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أعتق عن كل واحدة رقبة، قال إني صاحب إبل، قال فاهد عن كل واحدة بدنة.
وعن سلمة بن قيس الأشجعي قال: أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا إن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم، وإنها وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث"، أخرجه أحمد والنسائي.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء ابنا مليكة وهما من الأنصار فقالا يا رسول الله إن أمنا تحفظ على البعل وتكرم الضيف وقد وأدت في الجاهلية، أخرجه أحمد والحاكم وصححه.
وأخرج عبد الرزاق عن الشعبي قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين إني وأدت (4) ابنة لي في الجاهلية فأدركتها قبل أن تموت فاستخرجتها، ثم إنها أدركت الإسلام معنا فحسن إسلامها.
وعن عمر بن الخطاب وسئل عن قوله "وإذا الموؤودة سئلت"، قال جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد وأدت بنات لي في الجاهلية، فقال: اعتق عن كل واحدة منهن رقبة، فقلت يا رسول الله إني صاحب إبل، قال فانحر عن كل واحدة منهن بدنة. أخرجه البزار والطبراني، قال الهيثمي ورجال البزار رجال الصحيح غير حسين بن مهدي الأيلي وهو ثقة.
وروى طفيل بن عمرو عن صعصعة بن ناجية رضي الله عنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فعرض علي الإسلام فأسلمت وعلمني آيات من القرآن، فقلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية فهل لي منها من أجر، قال وما عملت، فقلت ضلت ناقتان لي عشراوين فخرجت أبغيهما على جمل لي فرفع لي بنيان في فضاء من الأرض فقصدت قصدها فوجدت في أحدهما شيخا كبيرا، فقلت حسست ناقتين عشراوين؟ قال وما نارهما قلت ميسم بني دارم، قال قد وجدنا ويحيا بهما وظئراهما على أولادهما وقد يعيش بهما أهل بيتين من قومك من العرب من مضر، فبينما الرجل يخاطبني إذ نادته امرأة من البيت الآخر قد ولدت قال ما ولدت إن كان غلاما، فقد شركنا في قومنا وإن كانت جارية فادفناها، فقالت جارية فقلت وما هذه المولودة فقال ابنة لي فقلت أنا اشتريها منك، قال يا أخا تميم أتقول لي بع ابنتك وقد أخبرتك أني رجل من العرب من مضر، فقلت إني لا أشتري منك رقبتها ولكن أشتري منك روحها أن لا تقتلها، قال بم تشتريها، قلت بناقتي هاتين وبولديهما، قال وتزيدني بعيرك هذا، فقلت نعم على أن تبعث معي رسولا فإذا بلغت أهلي رددته إليك ففعل، فلما بلغت أهلي رددت إليه البعير، فلما كان في بعض الليل فكرت في نفسي فقلت إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، فظهر الإسلام وقد أحييت ثلاثمائة وستين من الموؤودة، كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل، فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا باب من البر ولك أجره، إذ مَنّ الله عز وجل عليك بالإسلام" حسنه الهيثمي.
وقال ابن حجر في الإصابة: روى يحيى بن أبي ورقة بن سعيد عن أبيه قال أخبرتني مولاتي كبيرة بنت سفيان وكانت من المبايعات، قالت: قلت يا رسول الله إني وأدت أربع بنات في الجاهلية قال "اعتقي رقابا"، قالت فأعتقت أباك سعيدا وابنه ميسرة وجبيرا وأم ميسرة".
وفي طبقات ابن سعد أن ابني مليكة الجعفيين لما أسلما وفدا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالا له إن أمنا وأدت بنتا لها.
وأخيرا ومما سبق عرضه يتضح أنه لا يصح استبعاد وقوع ذلك لعدم تقبل العقل له، فإن العقل يستبعد من عاقل عبادة صنم بكبر الكف وطلب النفع والضر منه، ومع ذلك وجدنا عددا كبيرا من العرب فعله. وأختم مقالي بالصلاة والسلام على نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم.
عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء