لماذا تتمتع دول الخليج بعوامل مقاومة ضد الأزمة العالمية أكثر من أي اقتصاد آخر؟

لماذا تتمتع دول الخليج بعوامل مقاومة ضد الأزمة العالمية أكثر من أي اقتصاد آخر؟

لا يمكن عزل أي بلد عن الأزمة العالمية، لأن الارتباط الذي شهدته أسواق المنطقة بنظيراتها العالمية في الفترة الأخيرة ستأخذ منحى حذرا في المستقبل، خصوصا أن الأساسيات الاقتصادية لدول الخليج مختلفة تماما عن باقي الدول، خاصة أن دول الخليج دائنة وليست مستدينة، وموارد السيولة متاحة لدى حكوماتها، كما أن أسواق الخليج لا توجد فيها منتجات استثمارية مركبة ومهيكلة على نطاق واسع يمكن أن تقود إلى انهيار السوق، صحيح أن أسواق الخليج تفتقر حتى الآن إلى مؤسسات استثمارية محترفة لا تتبع الموجات الجماعية في الأسواق، بل تتبنى قراراتها الاستثمارية على أسس علمية وتحليلية دقيقة كي تكون خط الدفاع الأول لأسواق المال في المنطقة من الانهيارات المتكررة والمتوقعة، وأنه آن الأوان بإدارة الأصول باحترافية عالية بعيدا عن السماسرة، والتوجه نحو البيوت الاستشارية وخبراء إدارة الأصول لإبعاد شبح الذعر عن السوق الخليجية .
فالموجودات المالية في جميع أسواق العالم هي خط الدفاع الأول، ويرجع البعض أسباب الأزمة المالية العالمية في أمريكا إلى التدفق المالي الضخم والمستدام من الإقراض الأجنبي القادم إلى الولايات المتحدة، الذي دائما ما يعرض الاقتصاد المحلي نفسه لمخاطر أزمة مالية ناتجة عن ذلك، لأن الهشاشة المالية الخارجية والمحلية ستزداد، وأصبحت الولايات المتحدة جهة إنفاق وملاذ أخير للاقتراض، خصوصا بعد الأزمة المكسيكية عام 1982، بعدما أعلنت أنها غير قادرة على خدمة ديونها، جعلت معاقل المال في نيويورك ولندن تجثو على ركبها، ثم أتت الأزمة الآسيوية عامي (1997 - 1998) فاختارت دول النمور الآسيوية والصين بعد ذلك مسار تنمية قائما على التصدير، هذا إضافة إلى أن أسعار الفائدة المتدنية في الولايات المتحدة شجعت الأموال الرخيصة على قيام فورة من الابتكار المالي والاقتراض والإنفاق.
وبلغ إجمالي فوائض دول الفائض العالمي عام 2007 نحو 1680 مليار دولار حسب بيانات صندوق النقد الدولي، كان نصيب الدول العشر الكبرى: الصين، اليابان، ألمانيا، السعودية، روسيا، سويسرا، النرويج، الكويت، هولندا، والإمارات، أكثر من 70 في المائة من المجموع.
وارتفع مخزون الاحتياطيات المالية العالمية من العملات الأجنبية ما بين عامي 2000 و2007 إلى 5200 مليار دولار، وثلثا الاحتياطيات كانت بالدولار مما دعم العملة الأمريكية ومول العجوزات المالية الخارجية الأمريكية، ولكن بسبب طفرة المدخرات أدت إلى انفجار فقاعة الـ (دوتكوم) - شركات الإنترنت - عام 2000 بسبب تفوق عوائدها التي احتفظت بها على استثماراتها، وبدلا من الاقتراض من البنوك فإن شركات غير مالية برزت إلى الساحة وأصبحت مزودة للتمويل، ما أدى إلى لجوء البنوك المركزية إلى اتباع سياسات نقدية متساهلة، لأنها كانت تخشى تحولا باتجاه الانكماش، ولم تمنع هذه المؤسسات المالية من العمل خارج البنوك أو وفق ضوابط بنكية، بل العكس من ذلك فإن البنوك نفسها اتبعت سياسات بنكية متساهلة جدا.
فالموازنة المالية تتعلق بالفرق بين الإنفاق والدخل، وفي اقتصاد الولايات المتحدة هناك ثلاثة قطاعات فاعلة: الأجنبي والحكومي والخاص، تمتع القطاع الأجنبي بفائض ضخم، استخدم هذا الفائض في تعويض العجز الذي كان يعانيه القطاعان الآخران.
فالمخاطر كانت مترابطة بين عوامل الخلل الداخلية والخارجية، وتراكم الديون والهشاشة المالية .
وتعتبر الدول المتقدمة الولايات المتحدة وأوروبا أن الميزة الوحيدة في معالجة الأزمة الحالية هي الاقتراض بعملاتها الخاصة، والكثيرون يعتقدون أن أفضل طريقة لإصلاح الوضع هو التوفير أكثر من المعتاد، لكن في ظل الظروف الحالية يعد هذا المنحى خاطئا بالنسبة للحكومات وصحيحا بالنسبة للأفراد، وسبق أن نادى مينارد كينز إبان الأزمة الأولى في عام 1931 بعد الكساد الكبير الذي أصاب اقتصاد الولايات المتحدة، ودعا الحكومة إلى زيادة الإنفاق لمواجهة الكساد.
فالولايات المتحدة تدخل الآن مرحلة من الركود إلى الكساد نتيجة الأزمة المالية والإنفاق على الحرب في العراق التي تصاعدت تكاليفها أربعة أضعاف، فارتفعت تكلفة الدقيقة الواحدة من 93 ألف دولار سنة 2003 إلى 371 ألف دولار عام 2008، وهو على حساب ما تنفقه الحكومة الأمريكية على جميع المشاريع الأخرى، بما فيها الصحة حيث لا يزال 49 مليون مواطن بلا ضمان صحي.
ومن السهل أن تعالج الولايات المتحدة الركود، أما المشكلة الثانية فهي تتجه نحو حيازات حكومية في رساميل البنوك، وإذا لزم الأمر التأميم الكامل.
وفي ظل الظروف الطارئة يرى كينز أن تتصرف الحكومات بشكل وقائي، إذا يستدعي التعامل مع الأزمة المزيد من الإنفاق بدلا من شد الأحزمة، وهو ما تتبعه الآن الولايات المتحدة.
ويطالب كينز بالوقوف في وجه القطيع المالي، وبالفعل حاول الكينزيون البريطانيون استخدام السياسة المالية النقدية دون اعتبار للتضخم، وحاولوا معالجة السياسة النقدية بجعل النقابات وكيلا عن كبح الأجور، والشركات وكيلا عن ضبط الأرباح. فابتعدت عن بقية الرفاق، وفي الآونة الأخيرة دعمت عدم ميل بنك إنجلترا إلى تخفيض أسعار الفائدة، ولكن خفضت بريطانيا الآن نصف نقطة مئوية ضمن تنسيق دولي .
لكن ما نجده في أمريكا هو العكس، تطابق المرتكزات الفكرية للأزمتين والتحرير شبه المطلق للأسواق وترك السوق لليد الخفية التي روّج لها آدم سميث قبل أكثر من 250 عاما ومن يسيرون على مدرسته ومنهم ميلتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد.
أما اقتصادات دول الخليج فهي تتمتع بنمو ملحوظ وملاءة عالية نتيجة الفوائض المالية التي حققتها خلال السنوات الخمس الماضية، ما يجعلها في وضع جيد في التعامل مع الأزمة، فضلا عن تمتع مصارفها بسيولة عالية وكافية ووضع مالي متميز، نظرا إلى أن متطلباتها تفوق متطلبات "بازل2" للملاءة المالية، وخضوعها لرقابة مصرفية حصيفة ومتحفظة لمعالجة التضخم والحد من القروض الاستهلاكية، إلا أن مع الأزمة العالمية خفضت السعودية الاحتياطي الإلزامي من 13 إلى 10 في المائة مع خفض سعر الريبو للمرة الأولى في 20 شهرا إلى 5 في المائة من 5,5 في المائة، بعدما أظهرت الضغوط التضخمية علامات على التراجع وضخت 2 - 3 مليارات دولار بالعملتين الريال والدولار في صورة ودائع في النظام المصرفي لتخفيف الضغوط على السيولة، ما ساعد في الحد من الارتفاع في أسعار الاقتراض بين البنوك التي قفزت للمرة الأولى من مستوى 3,4 في المائة في تموز (يوليو) إلى 4,05 في أيلول (سبتمبر) بفعل تنامي المخاوف المتعلقة بنقص السيولة الذي عززته الأزمة العالمية التي عطلت الكثير من عمليات التبادل الائتماني والاقتراض بين بنوك العالم، والمعروض النقدي في السعودية على عكس الأسواق العالمية نما إلى 21,8 في المائة في آب (أغسطس) من 20,8 في المائة في تموز (يوليو) 2008، والمعروض النقدي (ن3) ارتفع إلى 885,77 مليار ريال في نهاية آب (أغسطس) مقارنة بـ 727,19 مليار ريال قبل عام . واتخذت "ساما" هذه الخطوة بعد تراجع النقد المتداول خارج المصارف نحو 2,1 في المائة من 78,5 مليار دولار في تموز (يوليو) 2008 إلى 76,8 مليار ريال في آب (أغسطس) 2008، أما الإيداعات تحت الطلب أكبر عنصر في المؤشر (ن3) فقد شهد انخفاضا شهريا بنسبة 1,95 في المائة في آب (أغسطس)، وهو أكثر انخفاض في عام وثاني انخفاض شهري إلى 342,3 مليار ريال، وهو أدنى مستوى لها منذ نيسان (أبريل) هذا العام 2008، ولكن لدى السعودية 1,56 تريليون ريال من الموجودات الأجنبية الصافية، أي ما يزيد على الناتج المحلي الإجمالي، وحتى في ظل انخفاض أسعار البترول يمكن للسعودية ضخ المزيد من السيولة لكن عليها أن تستمر في خطط تعميق القاعدة الصناعية لتنويع مصادر دخلها لأن الواردات لا تزال ثلاثة أضعاف الصادرات، هذا إضافة إلى أن نوعية الصادرات عبارة عن مواد أساسية وليست صناعات وسيطة أو نهائية.
ورغم المخاوف من تأثر منطقة الخليج بالأزمة المالية العالمية والتباطؤ الاقتصادي، إلا أن المنطقة تضم أكثر من 250 مشروعا إنشائيا ضخما في مرحلة العطاءات بقيمة إجمالية تصل إلى 120 مليار دولار، فالسعودية بمفردها حققت ناتجا محليا تعدى 381 مليار دولار، الذي جعل السعودية تتبوأ مرتبة جيدة بين أكبر 24 اقتصادا على مستوى العالم من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي، أما من حيث مكانتها النسبية فإنها نجحت في بناء قاعدة صناعية كبيرة أهملت العديد من الشركات السعودية، مثل "سابك" أن تصنف ضمن أكبر عشر شركات على مستوى العالم في صناعات البتروكيماويات، وتنتج السعودية أكثر من 60 في المائة من الإنتاج العربي ونحو 76 في المائة من الإنتاج الخليجي من البتروكيماويات. ووفق رؤى اقتصادية مدروسة بعمق ستعمل السعودية على تصعيد حصتها من السوق العالمي للبتروكيماويات من مستوى 7 في المائة حاليا إلى 12 في المائة، وذلك خلال السنوات الخمس المقبلة، ثم الاتجاه بقوة لرفع حصتها إلى 20 في المائة من إجمالي الناتج العالمي للبتروكيماويات بحلول عام 2020، وتخطيطها لاستثمار 450 مليار ريال (120 مليار دولار) خلال السنوات الخمس المقبلة بنسبة 63 في المائة من إجمالي الاستثمارات، وهذه استراتيجيات طموحة ضمن تنويع وتعميق القاعدة الصناعية تستهدف تعزيز القدرات التنافسية وتنويع قاعدة الإنتاج والصادرات الصناعية لتصل مساهمة القطاع الصناعي من الناتج المحلي إلى 20 في المائة (تبلغ حاليا 9,6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي و14 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي).
والاستراتيجية الصناعية تستهدف تحقيق نقلة نوعية تتعلق بجوانب تطوير التقنيات المناسبة، استقطاب الاستثمارات الوطنية والأجنبية بهدف زيادة القيمة المضافة للصناعات المستهدفة وبناء قواعد معلومات صناعية تحقق التشابك والتكامل الصناعي، تحفيز تنوع الصناعات ذات الميزة النسبية والصناعات المكملة لها، تشجيع الاستثمار في تطوير البنية الأساسية للمدن الصناعية ومناطق التقنية، والعناية بتطوير الصناعات الصغيرة والمتوسطة والصناعات الحرفية والتقليدية .
وبحسب تقرير البنك الدولي لأداء الأعمال الصادر أخيرا صنف المملكة أفضل دولة بين دول الشرق الأوسط من حيث تنافسية بيئة الاستثمار ويضعها في المركز السادس عشر على مستوى العالم، بعد أن كانت في المركز السابع والستين قبل ثلاث سنوات.
ويتبقى الهاجس الأكبر في البحث عن سبل تجعل أسواق الأسهم الخليجية أكثر استقرارا، وتسعى جاهدة إلى الاتجاه إلى تأسيس العمل المؤسسي المفقود حاليا في سوق الأسهم الخليجية، الذي يتسبب في الانهيارات التي لا تتوافق مع أساسيات الاقتصاد الخليجي، فاستضافة أبو ظبي أخيرا في 14/10/2008 ملتقى الوساطة المالية في الخليج تحت شعار الاستثمار في اقتصاد عالمي جديد للخروج بتصورات ورؤى تمكن المسؤولين من الاستفادة من هذا الملتقى لإنقاذ أسواق الأسهم الخليجية من التذبذب والانهيارات غير المقبولة.

[email protected]

الأكثر قراءة