... ولكن ماذا لو أن والدتك تعيش معك؟!

... ولكن ماذا لو أن والدتك تعيش معك؟!

"لا شيء أسوأ من صورة واضحة لمبدأ مشوش" المصور والناشط البيئي الأمريكي آنسل آدمز في ظل استفحال الأزمة الاقتصادية في معظم الدول الغربية، ودخول اقتصادات هذه الدول كسادا مجهول الآفاق – سواء اعترفت حكوماتها به أم لم تعترف - بدأت تنشر في الأجواء فكرة "العيش عند الوالدة" لمجابهة "طلقات" التضخم والغلاء، و"شظايا" أزمة الائتمان العقاري، التي حصدت آلاف المنازل، وتركت مالكيها تحت رحمة الضمانات الاجتماعية، بينما تبحث البنوك والمؤسسات المالية عمن يشتري هذه المنازل بالمزادات العلنية. إنه السيناريو الذي يحدث دائما مع انطلاقة الشرارة الأولى لأي كساد. فالذي يمتلك عقارا مرهونا لبنك أو مؤسسة مالية ما، يدفع أقساطا شهرية عالية بينما تتراجع قيمة العقار بمستوى أعلى. وبعد فترة سيجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاستمرار في دفع الأقساط متحملا خسائر مادية فادحة، وتآكل قيمة العقار – هذا إذا كان يستطيع الاستمرار في التسديد - وإما ترك العقار للجهة التي اقترض منها، وهو بذلك سيصبح في الشارع، أو في أفضل الأحوال، سينتظر تدبير الحكومة. فمثل هذه القروض تتحول عادة في أوقات المصائب – وما أكثرها – إلى جنزير في معصمي المقترض، بينما يطلب منه مدير البنك أن يلعب كرة الطاولة!. أي أن يسدد أقساطه في الظروف الحالكة، ودون تأخير! أمام هذه الصورة، بدأت فكرة "لتعش عند والدتك" بشكل تهكمي، لكنها سرعان ما تحولت إلى "مسألة" فيها نظر، ويمكن "استخراج" المزايا منها، بل وتسويقها. فالأم في المجتمعات الغربية، عادة ما تكون مستقلة ماليا ومعيشيا، وتحظى بالرعاية الصحية والاجتماعية اللازمة من المؤسسات المختلفة التابعة للدولة. وفي أغلب الحالات، يكون للأم راتبها الشهري، أو لنقل راتبها التقاعدي، الأمر الذي يوفر لها المزيد من الاستقلالية - وفي بعض الأحيان الكرامة - عن بقية أفراد أسرتها. وإذا ما وضعنا هذه المعطيات أمامنا، فإن الوالدة، يمكن أن تستقبل ولدها أو ابنتها للعيش معها – إن شاءت طبعا - وذلك توفيرا للتكاليف الباهظة في زمن الكساد والتضخم. ويمكنها أن تقدم ملاذا آمنا لأولئك الذين فقدوا منازلهم تحت وطأة تراجع قيمة منازلهم، مع ارتفاع مستوى قروضهم السكنية. ولكن هل يصلح هذا الحل في الدول العربية؟ أو في الدول التي لا تعتمد نظاما تقاعديا اجتماعيا لمواطنيها؟. علما بأن التضخم في البلدان العربية – غنية وغير غنية – وصل إلى مستويات تاريخية، وأن الباحثين عن منازل للسكن – ولنقل غرف – يزدادون مع كل طلعة شمس. وأن العاجزين عن تسديد قروضهم السكنية وغير السكنية، يتمنون لو أن النهار يأتي مرة في السنة!!. وبعضهم يتمنى ألا يأتي أصلا؟!. وعلما أيضا.. بأن التأمينات الاجتماعيات لم ترق بعد إلى مستوى الكفاف المعيشي، ولا تصل إلى درجة الأمان التقاعدي. وعلى الرغم من وجود جهود متعاظمة في بعض الدول العربية، للوصول إلى مفهوم مؤسساتي للتأمينات الاجتماعية، إلا أنها لا تزال بعيدة عن حافة النضوج. إذا.. الوالدة في الحالة العربية، لا تستطيع استقبالك في منزلها، لكي تحاربا سويا التضخم والغلاء، وشرور القروض المصرفية. والسبب ببساطة، أن الغالبية العظمى من الأمهات في غالبية الدول العربية، يعشن عند أولادهن وبناتهن. فليس هناك استقلالية مادية، لتنتج عنها استقلالية فردية اجتماعية للوالدة، بعد عقود من العطاء والتضحية – وأحيانا الحرمان - فالمشكلة هنا في الواقع مشكلتان. الأولى: أن تتدبر أمرك مع التحولات الاقتصادية القاسية. والثانية: الحفاظ بقدر المستطاع على الوضع المعيشي لوالدتك. ففي هذه الحالة ما يصلح في الغرب، لا يصلح بالضرورة في الشرق. بل إن الوالدة، التي يمكن أن تزيل عقبة من جهة الغرب، تضيف عقبة من جهة الشرق، خصوصا إذا ما تعاظمت احتياجاتها الصحية، فالضامن هنا هو أنت، لا النظام المؤسساتي الغائب عن الساحة، والملاذ الآمن هو ذلك الذي توفره أنت – إن تمكنت – لا الجمعيات السكنية. إن الفكرة – فكرة العيش عند الوالدة – التي ظهرت بداية كوسيلة تهكم على النظام المالي في الدول الغربية، ينبغي أن تطرح مصير الوالدة – أو الوالد طبعا- كقضية مصيرية في الدول العربية. نحن نعلم أن هناك الكثير.. الكثير من القضايا في المجتمعات العربية تحتاج لعلاج سريع وعميق، لا موسميا أو إعلاميا. لكن الذي نعرفه أيضا، أن قضية المجتمع هي كل شامل، من الصعب تجزئتها. فالتخفيف من العبء المالي الذي قد تشكله الوالدة – طبعا لا عبء لأية والدة من الناحية العاطفية، ويهون أيضا عبئها المالي- سيوفر قدرا ماليا ما للتعليم، وهذا بدوره سيخفف معدلات الأمية في الوطن العربي، التي تشكل قرابة الثلث من المجموع الكلي للسكان، ولا أبالغ هنا إن قلت: إن تخفيف هذا العبء أيضا، سيقضم العدد المتعاظم للأطفال الذين يعملون في شتى المجالات، بما في ذلك استخدامهم كرقيق، وفي تجارة الدعارة إقليميا وعالميا. إن تخفيف هذا العبء أيضا، سيمنح الحياة المعيشية للأسر نوعية أفضل، في مجالات الغذاء والرعاية الصحية وغيرها، وسيفسح الطريق أمام التوعية في كل المجالات. لقد قال المدير العام لمنظمة الطاقة الذرية العالمية الدكتور محمد البرادعي أخيرا: "إن الفقر هو القنبلة النووية الأعنف في هذا العالم". وقد صدق في ذلك. لا أحد يمكنه الادعاء بأن الفقر في العالم العربي يمكن أن ينتهي بقرار، أو باجتماع، أو حتى بمساعدات دولية. لكن في وقت انتشار الكساد ومعه التضخم. أو كما يقول الاقتصاديون: الكساد التضخمي، بالإمكان إيجاد الدواء الناجح عن طريق إعادة النظر في بعض المعطيات الموجودة على الأرض. وقضية "الوالدة" هي إحدى هذه المعطيات، نظرا لارتباطاتها بنسيج المجتمع ككل. وإذا اجتازت هذه القضية الامتحان، يصبح بالإمكان فعلا العيش عند الوالدة. وهل هناك حياة أحلى من العيش عندها؟ [email protected]
إنشرها

أضف تعليق