استراتيجيات معالجة التضخم في الخليج.. استشراف تجربة أوروبا

استراتيجيات معالجة التضخم في الخليج.. استشراف تجربة أوروبا

تعيش مجتمعات الخليج أعراض أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين.. نقلة من مجتمعات تقليدية إلى مجتمعات صناعية ، صحيح ظهرت الثروة وتراكمت منذ عقود، ولكن لم يصاحبها تراكم قيمي أو أخلاقي رغم أن الدين الإسلامي يحثنا على العمل وعلى خلق القيمة وفي الوقت نفسه التمسك بالقيم والأخلاق، لكن كان الغرب الأسرع والأكثر أخذا بالقيمة والعمل. فالرأسمالية ليست رأسمالية منفلتة كما يعتقد البعض بل هي نتاج الأخلاق البروتستانتية، حتى أصبحت الرأسمالية العالمية هي نتيجة طبيعية بارتباط أخلاق مجتمع بقيمة العمل وتراكم الأخلاق والثروة معا.
تعيش منطقة الخليج في السنوات الأخيرة فورة توسعية في الاتصالات فقط والتحرر من الاحتكار وأصبح مقدمو الخدمة عديدين مما أدى إلى حفز المنافسة بين شركات قطاع الاتصالات وتخفيض متوسط الإيرادات لكل مستخدم نتج عنه تقلص ربحية الشركات العاملة، وتعين عليها السعي نحو زيادة حصتها السوقية من خلال تقديم خدمات اتصالات ذات قيمة مضافة متميزة وخدمات المحتوى (مثل خدمة البث التلفزيوني على الهاتف النقال) لزيادة متوسط الإيرادات لكل مستخدم.
لكن هذا التحرر لم ينسحب على بقية القطاعات الأخرى رغم أنها أكثر أهمية من قطاع الاتصالات وذات صلة مباشرة بمعاش وحياة الناس خصوصا لمتوسطي ومتدني الدخل كقطاع الكهرباء والماء والصحة (تنفق دول التعاون الخليجي نحو 4 في المائة من ناتجها المحلي على الرعاية الصحية مقارنة بما يراوح بين 9 و16 في المائة في الاتحاد الأوروبي)، والصرف الصحي وبقية الخدمات الأخرى، فما زال القطاع العام يحتكرها وهو غير قادر على تلبية حاجات النمو السكاني لأن تلك القطاعات تدار بعقلية بيروقراطية، مثل معاناة المواطنين في الوقت الحاضر مشكلة المياه والوقوف في طوابير طويلة في مدن عديدة وخصوصا في مدينة مكة المكرمة في مواسم رمضان والحج، إلى جانب مدن أخرى كجدة، الطائف، والباحة وغيرها من المدن، فهل عجزت العقلية الاقتصادية عن التعامل مع مشكلة المياه مثل بقية الخدمات الأخرى باستخدام وسائل الاتصال الحديثة عند تقديم هذه الخدمة بدلا من الطوابير الطويلة والانتظار لفترات زمنية عند شراء كل وايت ماء ريثما يتم تحرير هذا القطاع المهم الذي توليه الدولة اهتماما وعناية خاصة وإنفاق مبالغ طائلة، والسعودية أكبر دولة في العالم لتحلية للمياه.
ورغم تقدم الولايات المتحدة اقتصاديا واحتلالها المركز الأول عالميا لم تصل إلى هذا المستوى إلا بسبب أخذها بالنقد مثل انتقادها في عجزها في معالجة أزمة الرهون العقارية الائتمانية، وأصبح البعض ينتقد الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة بسبب إحلال الرأسمالية الفائقة مكان الرأسمالية الليبرالية التي اهتمت منذ زمن بتقرير الأرباح والخسائر والتي حلت محل العدد القليل من شركات الإنتاج الضخمة التي كانت تحتكر السوق بعد الحرب العالمية الثانية وتقلصت بعدما كانت مهيمنة على السوق، وظهرت إلى الوجود بسرعة شركات جديدة غيرها وأصبح القطاع المالي مركز القيادة وهو ما يسمى بالسوق الحرة التي كان ينادي بها اقتصاديو السوق الحرة منذ القرن الثامن عشر، ونتيجة لذلك فإن الكثير من الاقتصاديين ينتقدون الانحراف المتزايد في توزيع الدخل في الولايات المتحدة خصوصا بعدما تسببت الرأسمالية الفائقة في كارثة القروض السكنية حيث فشلت تلك الرأسمالية في رفع أجور الأعداد الكبيرة من العاملين الذين وجدوا أنفسهم مدفوعين للجوء إلى الاقتراض كحل بديل.
فأصبح الاقتصاديون الأمريكيون يطلقون عليها الرأسمالية المنفلتة من عقالها مما زادها سوءا، وكشفت مرة أخرى أن العالم الصناعي كلما تقدم في ابتكار الأدوات المالية والمصرفية المتقدمة زادت المخاطر التي تتعرض لها، كون تلك الأدوات تصمم بصورة أكبر لخدمة المؤسسات والمصارف الضخمة وتفتح لها المجال للمزيد من الاستثمار وتقديم القروض بصورة تراكمية متوالية تدفع إلى إحداث الفقاعات في المرحلة الأخيرة .
فالتحرر المالي الذي نهجه الغرب طوال السنوات العشرين الماضية أحدث الكثير من الكوارث بدءا بأزمة ديون أمريكا اللاتينية في الثمانينيات، وأزمة البنوك الإسكندنافية، والأزمة الآسيوية، لأن الأدوات المستخدمة في التحرر المالي كانت تخلق تأثيرات غير متوازنة ولحساب مصالح المؤسسات الكبرى بشكل رئيسي، ما فتح المجال نحو أرباح استثنائية بالتوازي مع مجال آخر لمراكمة الأخطاء الذاتية.
وبرغم دقة السياسة النقدية التي تتبعها دول الخليج في تعاملها مع عملاتها وإصرارها على ربطها بالدولار عندما كان في حدوده الدنيا، الذي اضطر إلى خفض الفائدة سبع مرات متوالية خلال فترة وجيزة جدا تبعتها دول الخليج في خفض الفائدة نتيجة هذا الارتباط رغم اختلاف ظروف اقتصادات دول الخليج.
فإذا كانت أمريكا تعاني فقاعة الرهن العقاري متسببة في آثار مدمرة في الأسواق المالية العالمية، وليست فقط الأمريكية. فإن دول الخليج تعاني أزمة ائتمانية خاصة في المنطقة ناتجة عن تصاعد تكلفة التمويل قصير الأجل في أسواق الخليج بما يتجاوز كثيرا نقطة قياس معدلات الفائدة في الخليج.
لكن في المقابل استطاعت السياسة النقدية في الخليج أن تكبح رهان البنوك الدولية على إعادة تقييم بعض بلدان الخليج عملاتها مقابل الدولار خصوصا السعودية والإمارات مما تسبب في فشل هذا الرهان في تقليص الفرق بين سعر الفائدة الذي يمثل نقطة القياس وسعر الفائدة المعمول به في السوق، وكان نتيجة ذلك زيادة الودائع في البنوك مما اضطر البنوك إلى الحصول على التمويل من أماكن أخرى لسد الثغرة بين نمو الودائع وأزمة الائتمان نتيجة اتجاه البنوك إلى الأسواق المحلية لانسداد الأسواق العالمية، الأمر الذي زاد من التكاليف.
فسعر الفائدة بين البنوك في السعودية لأجل ثلاثة أشهر حتى بداية أيلول (سبتمبر) 2008 نحو 4.22 في المائة بينما كان سعر الفائدة في الإمارات 3.12 في المائة مقارنة بسعر بمعدل أساس يبلغ 2 في المائة.
وتعمد السياسة النقدية في المنطقة إلى رفع أسعار الفائدة لإبطاء النمو وجعل التضخم أكثر قابلية للضبط، خصوصا أن دول المنطقة لا ترغب في وضع حدود على الإنفاق المالي الحكومي لكنها تحاول الحد من قروض الاستهلاك، فاتجهت إلى امتصاص السيولة الفائضة التي ارتفعت نتيجة الودائع إلى زيادة متطلبات الاحتياطي الإلزامي على البنوك، بل لم تكتف بتلك الخطوة بل اتجهت أيضا إلى إصدار مؤسسة النقد السعودي سندات بقيمة 73.9 مليار ريال خلال سبعة أشهر من بداية هذا العام بما يزيد على ثلاثة أضعاف إصداراتها خلال العام الماضي بأكمله، لأن القروض الاستهلاكية ارتفعت من ثمانية مليارات ريال في التسعينيات إلى 180 مليار ريال، في عام 2006 ارتفعت إلى 200 مليار ريال، وفي عام 2007، 2,5 مليون فرد مقترض بسبب تنافس البنوك في جذب أكبر شريحة ممكنة من المواطنين، لكن ارتفاع تكاليف الاقتراض التي تفرضها السياسة النقدية في دول الخليج يزيد من الضغوط على الشركات، فهل استراتيجية السياسة النقدية المتبعة في دول الخليج كافية بمفردها لمواجهة التضخم؟ أم أنها بحاجة إلى استراتيجيات أخرى إلى جانب السياسة النقدية؟ ولماذا تأخرت حتى الآن؟ ألم تكن هذه الاستراتيجيات واضحة؟ من المسؤول عن تأخر وضع هذه الاستراتيجيات؟ وهل وضعنا الآن استراتيجيات زمنية واضحة يمكن متابعتها لمعرفة المراحل التي تم إنجازها والعقبات التي يمكن وضع الحلول لها لمواصلة المسيرة؟
فاستراتيجية معالجة التضخم في دول العالم المتقدم تتجه نحو تحفيز الاقتصاد كي لا يفقد سوق العمل الوظائف وهي تضع خططا للحد من فقدان الوظائف، فمثلا خسرت أمريكا في شهر واحد في آب (أغسطس) 2008 نحو 84 ألف وظيفة ووصلت نسبة البطالة إلى 6.1 في المائة وهو أعلى معدل منذ كانون الأول (ديسمبر) 2003 وهي أقل من نسبة البطالة في دول الخليج النفطية إذ فشلت تلك الدول لمدة زمنية طويلة في معالجة البطالة بسبب أن تلك الحلول كانت وقتية وليست بحلول جذرية.
والتضخم مثلا في اليابان هو نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة التي وصلت إلى 6.4 دولار للجالون من البنزين فتراجع الناس عن الإنفاق لأن الأسعار أيضا ارتفعت في المواد الغذائية، لكن ارتفاع مؤشر التضخم في السعودية إلى 11.1 في المائة خلال تموز (يوليو) 2008 من 10.5 في المائة في آخر إحصائية رسمية نتيجة لتنامي ارتفاع الإيجارات وأسعار المواد الغذائية، ومع ذلك فإن الإنفاق من الناس في تزايد على عكس سكان اليابان الذين تعاطوا مع التضخم الناتج عن ارتفاع الأسعار، ورغم ارتفاع نسبة التضخم في المملكة فإنها أقل من الإمارات وقطر وإيران حيث وصل التضخم إلى 27 في المائة.
فمعالجة التضخم عن طريق ضبط السياسة النقدية بالتوازي مع تقديم المعونات العاجلة استراتيجية غير كافية وهي بحاجة إلى استراتيجيات أخرى إضافية تتحدد في المزيد من تحرير اقتصادات المنطقة وتوسيع قاعدة الإنتاج من خلال استغلال وتوظيف عوائد النفط المتراكمة والعالية نتيجة ارتفاع أسعار النفط بدلا من تجميدها في شراء سندات أمريكية، أي أن التضخم في المنطقة ليس مثل التضخم في بقية دول العالم المتقدم الناتج عن أزمات مالية أو عن ارتفاع الأسعار، أي أن التضخم في دول الخليج هو هيكلي لأن الواردات في السعودية البالغة 130 مليار دولار سنويا وبفجوة تصل إلى أكثر من 95 في المائة من الصادرات السلعية غير النفطية، وإذا استمر الاقتصاد السعودي والخليجي على هذا المنوال فإنه يصير اقتصادا ريعيا غير إنتاجي، وإن السياسة النقدية والمعونات لن تعالج جذور التضخم الحقيقية، نتيجة هشاشة البنى التحتية في ظل تزايد النمو السكاني الرأسي في المدن وتشتت المراكز السكانية نتيجة اتساع الرقعة المساحية الشاسعة والطبيعة الصحراوية للسعودية خصوصا.
والغريب أن دول الخليج تضخ استثمارات في قطاع التنقيب وإنتاج النفط تناهز قيمتها نحو 300 مليار دولار وفقا لأحدث التقارير الصادرة عن شركة أبحاث المشاريع (بروليد) على أمل أن تزيد دول الخليج صادراتها النفطية إلى عشرة ملايين برميل يوميا بحلول عام 2015 على أن تسهم السعودية بأكثر من نصف هذا الإنتاج.
أي أن دول الخليج لها أن تنتج نصف الطاقة المستقبلية الإضافية بحلول عام 2015، ويبدو أنها خطوة سياسية أكثر منها اقتصادية على حساب التنمية الاقتصادية التي تسهم في معالجة التضخم.
ومن أجل الحفاظ على الإنتاج الحالي أو زيادته أنفقت دول المجلس 1.5 مليار دولار عام 2006 إلى 30 مليار دولار في 2008 وتقوم شركة (بروليدز) باقتفاء أثر 300 مشروع نفطي نشط في قطاع الآبار في دول الخليج بقيمة إجمالية تصل إلى 300 مليار دولار.
ونجحت معظم المشاريع الحالية بعد استخدام تقنيات متقدمة استطاعت أن تستخرج 70 في المائة من النفط مقارنة بالطرق التقليدية القادرة على استخراج 35 في المائة فقط وهي خطوة تؤكد اهتمام دول الخليج بتوطين تقنيات هندسة البترول.
وكان الأولى إنفاق دول الخليج الـ 300 مليار دولار على توطين تقنيات مماثلة لتقنيات هندسة البترول تمتد إلى صناعات مبتكرة قائمة على البترول تسهم في توسيع القاعدة الاقتصادية وتنويع مصادر الدخل لتقليل الاعتماد على البترول كمصدر وحيد للدخل.
فالمعركة ضد التضخم في الدول المتقدمة هي من أجل إبقاء معدلات البطالة عند مستويات منخفضة تتركز استراتيجياتها على التحكم في السياسات النقدية كي تتجاوب مع الأزمة المالية، ورغم ضخ السيولة النقدية إلا أن توابع الأزمة المالية كانت سببا في استبعاد خطر الانزلاق إلى ارتفاع الأسعار والأجور.
أما استراتيجيات مواجهة التضخم في دول الخليج فتختلف عن استراتيجيات التضخم عن الدول المتقدمة بسبب اختلاف أسباب التضخم بين الجانبين.

[email protected]

الأكثر قراءة