حتى تنحسر موجة الغلاء.. ما الحل؟!

حتى تنحسر موجة الغلاء.. ما الحل؟!

بعد ركود طفرة الأسهم وانتهاء حديث المجالس عنها، تتركز الأحاديث منذ فترة عن موجة الغلاء التي تجتاح العالم, ومنها المملكة. البعض يلوم بعض الجهات المعنية كالتجارة والبلديات، والبعض الآخر يصب جام غضبه على التُجار وجشعهم المفرط. حقيقة الأمر هناك عوامل متداخلة داخلية وخارجية يصعب إفراد أحدها بالسببية. فارتفاع الرقم القياسي العام لتكلفة المعيشة في المملكة إلى ما يقارب 11 في المائة تموز (يوليو) الماضي، تبعته توقعات لـ "ساما" بتباطؤ معدل التضخم للربعين الثالث والرابع لهذا العام من دون تحديد أرقام لذلك. مصدر هذا التفاؤل انخفاض أسعار الخام وانتعاش الدولار. بالمقارنة، ففي الكويت الشقيقة توقع بنك الكويت الوطني تباطؤ معدل التضخم ليصل إلى مابين 7 و8 في المائة في نهاية هذا العام، معللاً أهم أسباب هذا التباطؤ بتحسن سعر صرف الدينار أمام العملات الأخرى بعد فك ارتباط الدينار بالدولار.
بالنسبة لنا، أرجعت الجهات المسؤولة موجة الغلاء الى ارتفاع تكلفة السكن والغذاء. هذه الزيادة في الأسعار يمكن إرجاعها إلى عاملين رئيسين: الأول داخلى والآخر خارجي.
الأسباب الداخلية للتضخم هي عبارة عن اختناقات بسبب الاختلال الحاصل بين العرض والطلب الكليين نتيجةً لتغير أحد أو بعض مكونات الطلب الكلي كزيادة الإنفاق الاستثماري أو الحكومي مثلا. فمن حيث المبدأ المملكة بلد يعتمد على الاستيراد والتصدير ودرجة انفتاحها على الأسواق الخارجية عالية، إلا أننا نجد في المقابل أن الطاقة الاستيعابية للمملكة كبيرة, ولله الحمد، فأي زيادة في الطلب الكلي لن يكون لها ذاك التأثير الكبير والمخيف في المستوى العام للأسعار. أما الأسباب الخارجية، فأجزم أن لها الدور الأكبر في التأثير في المستوى العام للأسعار داخلياً، خاصةً في ظل موجة الغلاء في البلدان المنتجة، وما نتج عنه من ارتفاع في تكاليف الواردات المحلية, إضافةً إلى الانخفاض الحاد لسعر صرف الدولار, الذي فاقم من مشكلة الغلاء.
من خلال هذه المعطيات، هل بمقدورنا السيطرة على هذا الداء, وما إمكاناتنا في ذلك؟ لو نظرنا إلى السياسة النقدية فإن مؤسسة النقد العربي السعودي لديها من الأدوات ما يمكنها من معالجة مثل هذا الأمر إذا كانت الأسباب الحقيقية داخلية، وتهيأت لها الظروف لتفعيل هذه الأدوات. من الأدوات التي تستطيع "ساما" استخدامها والتأثير فيها, وبالفعل استخدمتها, نسبة الاحتياطي القانوني، وهي عبارة عن نسبة من المبالغ المودعة لدى البنوك التجارية ويتم الاحتفاظ بها لدى "ساما" لغرض مواجهة الظروف الطارئة للبنوك التجارية كشح السيولة, فعندما ترفع "ساما" هذه النسبة فإنها تحد من قدرة البنوك على استثمار المبالغ المودعة لديها في عدة مجالات ومنها الإقراض وبالتالي الطلب الكلي ومن ثم المستوى العام للأسعار. أما الأداة الثانية فهي سعر الخصم، وهي عبارة عن رفع لمعدل الفائدة على البنوك التجارية بحيث تحد من قدرة هذه البنوك على الإقراض ومن ثم التأثير في الطلب الكلي ومن بعد في الأسعار.
عند قراءتنا المتأنية لهاتين الأداتين، نُلاحظ أن "ساما" وخلال الأعوام الثلاثة الماضية استطاعت الحد من قدرة البنوك على التوسع في الإقراض من خلال رفع نسبة الاحتياطي القانوني، تخفيض المدة الزمنية للقروض من عشر إلى خمس سنوات، وكذلك المبلغ الذي يحصل عليه المقترض من البنوك بشكل معقول. في اعتقادي أن التضييق على البنوك التجارية بأكثر من هذا سيؤدي إلى خفض كبير للسيولة ومن ثم إلى نوع من الانكماش الذي لا نرغب فيه، كما أن البنوك قد تواجه انخفاضا في الربحية مستقبلاً إذا لم تخلق أوعية استثمارية ومنتجات جديدة خاصةً في ظل التراجعات الحادة لسوق الأسهم وما تحصل عليه البنوك من عمولات. لمعالجة الأسباب الداخلية للتضخم فبالإمكان أيضاً اللجوء إلى السياسة المالية, خاصةً الإنفاق الحكومي, الذي يعد الركيزة الأساسية لهذه السياسة والأكثر بروزا واستخداما، كون الدولة هي المتلقي الرئيس للدخل والمسؤولة عن توزيعه. فتخفيض الإنفاق الحكومي أو جدولة بعض إنفاقاته الرئيسة لا شك أنه سيؤثر في الطلب الكلي ومن ثم التضخم. تجدر الإشارة هنا إلى أن أي تغيير في خطة الإنفاق الحكومي سلباً إذا لم تكن مدروسة بعناية في هذه الظروف الدقيقة ستؤدي إلى نوع من الكساد التضخمي. كذلك تخفيض الإنفاق الحكومي في مجال الإسكان قد يؤدي إلى تفاقم التضخم في أسعار الشقق والمنازل بشكل كبير، خاصةً أن الإسكان أحد الأسباب الداخلية الذي أشارت إليه التقارير بأنه مسؤول جزئيا عن ارتفاع المستوى العام للأسعار في المملكة. إذاً المهم هنا هي الجدولة التدريجية لبعض المشاريع الكبيرة، لكن دون التأثير في مصادر التمويل المتعلقة بالإسكان والبنية التحتية الأساسية فهي ضرورية ومن الأهمية بمكان حتى لا تتفاقم لدينا مشكلة التضخم وتزداد أعباء معالجته ومكافحته.
بالنظر إلى الحقائق سالفة الذكر، نجد أن العوامل الخارجية تلعب الدور الأكبر والمهم في التضخم الحاصل لدينا، لا.. بل تتحمل الجزء الأكبر من وزره، وذلك بسبب ضعف الدولار واقتران الريال به. فارتفاع تكاليف الواردات من السلع المصنعة ونصف المصنعة والمواد الخام اللازمة للإنتاج المحلي مسؤولة مسؤولية مباشرة عن ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلي.
إذاً قدرتنا على كبح جماح التضخم قد تكون في حدودها الدنيا، ولذا فإن السياسة المالية والنقدية محلياً فقط لن يكون لهما الدور الفاعل والمأمول في علاج هذه المشكلة. يجب أن نكون حازمين في علاج أسباب التضخم الحقيقية وليست أعراضه، كون التهاون بها أو التقليل من شأنها سيكون له آثار وخيمةً على دخول المواطنين، الإنتاج ، الادخار، الصادرات وفوقها النمو الاقتصادي. فبينما نحن مشغولون بعلاج التضخم، بالإمكان توعية وتعويض من تضرر من أعراضه بصورة رئيسة وهم من يحصل على دخل ثابت كالموظفين. الشق التوعوي يشمل ترشيد استهلاك كثير من السلع والتوجه إلى البدائل المتوافرة لكثير منها. هذا قامت وتقوم به وزارة التجارة، كما يضاف إليه الرقابة والتفتيش. وهنا أود التنويه إلى أن سياسة الدعم للسلع الغذائية الرئيسة قد لا تكون بتلك الكفاءة بسبب البيوقراطية كتحديد نوعيات السلع ومن يستوردها، آلية تحديد الأسعار، هوامش الربح، مراقبة تغيرات الأسعار وخلافه. المهم التعويض المباشر للمتضرر الرئيس على شكل زيادة غير مباشرة في المرتبات تدعم دخولهم، كبدل سكن للموظفين بحدود ثلاثة رواتب وبدل غلاء للسلع الأساسية كنسبة من الراتب تتناقص بزيادة الدخل وكذلك تشجيع الاستيراد المباشر لمحال التجزئة الكبرى, كما حصل في الكويت بحيث نضمن أسعارا معقولة للمواطنين. سياسات تعويض المواطنين يمكن مراجعة ديمومتها بسهولة حال تحسن الأوضاع المعيشية للمواطنين وهذا ما بدأت الدولة به مثل بدل الغلاء السنوي, ونأمل من مقام حكومتنا الرشيدة المزيد ـ بإذن الله. التوقعات تشير إلى إمكانية تراجع التضخم بشكل بسيط أو على الأقل بقائه على حاله. تراجع أسعار النفط (تكلفة الإنتاج) وتحسن الدولار سيساعدان على خفض الأسعار التي قد تأخذ أشهراً، كون الأسعار لا تهبط بسهولة بعد أن استوعبتها الأسواق.

[email protected]

الأكثر قراءة