البيئة .. التكاليف أعلى من الأرباح!
"الإنسان الذي يجعل من إرادته قانونا.. يكون بلا قانون"
الأديب الإنجليزي وليم شكسبير
الصورة قاتمة.. وقاتمة جدا, المشهد أشد ظلاما, هذه الأرض لم تعد كما كانت, المفارقات تحكمها، والأنانية تتسيد قوانينها. فلا الكبير حافظ على هامته، ولا الصغير بقي ضمن إطاره. حرارة الأرض ترتفع, مياهها التي تغلي لا تطفئ ظمأ، وثلوجها الذائبة لا تحفظ طعاما. الفقر يناطح الأرض حرارة، والفشل بات معلما أمميا، يحتاج العالم إلى العالم كله لمواجهته. الأمراض القديمة أصبحت أكثر استفحالا، والعالم يختار الأسماء للأمراض الجديدة. الأنانية باتت على جدول الأعمال، لم تعد متوارية، أو مغلفة بابتسامات صفراء. فلا حاجة بعد الآن إلى فك "شفرات" الابتسامات. غالبية الدول الكبرى – وهي التي تتحمل المسؤولية الكبرى- تتبع سياسات بيئية، من أجل حماية حكوماتها في معارك صناديق الاقتراع. والدول الصغرى، تعرف أن مسؤوليتها عن تدمير الأرض لا تزيد على حجمها – أي حجم الدول نفسها، وتعرف أيضا أن الكبير لا بد أن يقوم بدور بمقاس هامته أخلاقيا وتاريخيا ومستقبليا وصحيا واقتصاديا، فترمي الكرة في ملعبه، ليس مهما أن يكون حارس المرمى واقفا في مكانه، أم أنه يتجادل مع "حكم التماس"!. وفي ظل هذا المشهد، الأرض تغلي.. ترتفع حرارتها التي تزعزع التوازن البيئي. فلم تعد القضية عند بعض الدول تنحصر فيما سيحدث غدا، المهم أن تكمل الأرض دورانها، بأقل غضب منها.
لكن الكوارث الطبيعية تجلب معها كوارث اقتصادية متنوعة، تنعكس بالتالي على المجتمع – أيا كان هذا المجتمع – حتى لو كان في الولايات المتحدة, البلد الأقوى والأغنى على وجه الأرض. فالكارثة تجر أخرى, ومع ذلك لا تزال جهود ونيات الدول الكبرى ومعها الصغرى، في حماية البيئة دون مستوى المخاطر، ودون مستوى الكارثة الأهم. فالتوازن البيئي، لم يعد متوازنا، في ظل العناد العالمي. نعم .. هناك دول قامت بدور لا بأس به في مجال حماية الكرة الأرضية من التخريب البشري، ولكن مهما كانت جهود هذه الدول جبارة فإنها تصطدم بجدار"الأنا". تلك "الأنا"، قضمت كثيرا من الجهود، والتفت حول الحركة النزيهة الهادفة لحماية البيئة العالمية ككل. فقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة خسائر اقتصادية عالمية فادحة بسبب التغيرات المناخية الناتجة عن ظاهرة الاحتباس الحراري، التي أصابت كل شبر على سطح الكرة الأرضية. ففي عام 2003 عمت أوروبا موجة حر شديدة لم تشهدها منذ 500 عام، ألحقت خسائر وصل حجمها إلى 17 مليار يورو، أما عام 2004 فقدرت الخسائر بـ 35 مليار دولار أمريكي تحملت الولايات المتحدة وحدها 26 مليار منها، إلى جانب خسائر شركات التأمين التي قدرت بـ 115 مليار دولار، منها 65 مليار حصة أمريكا، و35 مليار لأوروبا، ونحو 15 مليار دولار لليابان. وتصل الخسائر الاقتصادية إلى مليار يورو إذا ما ارتفعت درجة حرارة الكرة الأرضية درجة مئوية واحدة فقط. ولأن الأمر كذلك فإن الاتحاد الأوروبي يصر على التزام جميع الدول باتفاقية كيوتو، ولاسيما الدول الصناعية مثل أمريكا, الصين, والهند، حيث تستهلك أكثر من 30 في المائة من الطاقة العالمية.
هذا مثال واحد عما يحدث في العالم حاليا. وإذا كان العالم الغني – أوروبا والولايات المتحدة – تعرض لهذه الخسائر نتيجة غياب التوازن البيئي، فكيف الحال في الدول الفقيرة، الأكثر معاناة من الكوارث المترتبة على التغير المناخي، والسبب – مرة أخرى - ممارسات الدول الصناعية الكبرى ( الولايات المتحدة تتصدر قائمة الدول الأكثر إنتاجا لثاني أكسيد الكربون) . إن التغير المناخي - الذي تقع مسؤوليته على الانبعاثات التي يتسبب فيها البشر - والتصحر، وموجات الجفاف، وارتفاع منسوب البحار، ستضرب بشدة المناطق الاستوائية من الصحراء الإفريقية كما ستضرب جزر المحيط الهادئ. فالاحتباس الحراري لا يرفع درجة حرارة الأرض، ولا يؤدي إلى ذوبان المناطق الثلجية، وانجرافها إلى المحيطات والبحار، ولا يزيد معدل الكربون في الجو، ولا يجلب الأمراض الجديدة ولا يطور الأمراض المعروفة.. لا يحقق الاحتباس كل هذا فقط، بل يرفع من مستوى المعاناة, ولاسيما في الدول الفقيرة. لقد قال لي الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران في حوار صحافي معه أثناء انعقاد "قمة الأرض" الأولى في ريو دي جانيرو البرازيلية عام 1992: "نحن نعلم أننا لا نستطيع أن نطلب من سكان المناطق النائية في إفريقيا – مثلا- الحفاظ على البيئة، إذا لم نوفر لهم الوقود اللازم لحياتهم اليومية، والطعام والمواد الصحية الضرورية لاستمرار معيشتهم".
بين قمتي "الأرض" في البرازيل، وبعدها بعشر سنوات في جنوب إفريقيا، تحقق بعض التقدم في مجال الحفاظ على البيئة، وحماية الاقتصاد العالمي، لكن هذا التقدم لم يلبث أن طار في مهب الريح، جراء عناد بعض الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة. والمفارقة أن الانتقادات الموجهة لواشنطن، لا تأتي فقط من الدول المعروفة بانتقاداتها التاريخية للولايات المتحدة، بل تأتي من دول معروفة بعلاقاتها المتميزة مع الدولة الكبرى. فبريطانيا اعترفت بهول الكارثة، وطبقا لوزارة الخزانة فيها، فإن التغيرات المناخية التي يشهدها العالم حالياً، ستكون لها آثار مدمرة في الاقتصاد العالمي، قد تفوق الآثار التي سببتها الحربان العالميتان، خاصة في الدول الفقيرة. وإن مواجهة آثار التغيرات المناخية، ستكلف العالم ما بين 5 و20 في المائة من إجمالي الدخل لمختلف دول العالم سنوياً. وزيادة في الكارثة فإن الاحتباس الحراري يؤدي إلى أمراض جديدة، ويحول أمراض عادية إلى قاتلة، تتسبب في وفاة أكثر من 150 ألف شخصا سنويا في العالم. ولا تتوقف التكاليف عند هذا الحد، فالنمو الاقتصادي الغائب عن مستقبل البيئة يتسبب في مزيد من انبعاثات الكربون، إلى جانب ذلك فإن تطور بعض الدول تكنولوجيا واقتصاديا أتى على حساب مناخ الأرض. وفي البلدان الفقيرة تراوح التكلفة الصحية الناجمة عن المخاطر البيئية بين 1.2 و3.8 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، بينما يموت أكثر من 35 ألف شخص يوميا بسبب نقص المياه النقية. وهناك مليار ونصف المليار شخص ليس لديهم مصدر للمياه النقية، وثلاثة مليارات شخص في العالم ليس لديهم نظام صرف صحي. وعلى الرغم من وجود خطة للوصول إلى تقليل نسبة الذين يعانون نقص المياه الصالحة للشرب 50 في المائة بحلول عام 2015، يبقى هذا الهدف بعيدا عن التحقيق خاصة في الدول الإفريقية، بينما يموت يومياً نحو ستة آلاف طفل بسبب الأمراض لأن المياه في الدول النامية معظمها ملوثة.
إنها تكاليف مروعة، ومستقبل العالم على موقد الكرة الأرضية، والأمل لن يكون موجودا إلا إذا اشتغل الكبار والصغار من أجل مصلحة هذه الدنيا، مع الأخذ في الحسبان أن مسؤولية القيادة والعمل والعطاء والتثقيف تقع على عاتق الكبير الحكيم .. لا الكبير الحاكم. إن هذا الكوكب يستحق– خصوصا مع عدم وجود كواكب يمكن الانتقال إليها حتى الآن ! – الرعاية الأبوية، للأرض، وللفقير، وللضعيف، لا الرعاية السياسية. فالسياسة ترسم معالم المستقبل، لكنها لا تخلق المصير.