الحكومات للمعاقبة والجمعيات للمراقبة
"إن كنت صادقاً فلماذا تحلف"
الأديب الإنجليزي وليم شيكسبير
من أسوأ الأشياء قاطبة، أن تخضع قضية مصيرية ما، لمعالجة موسمية. فمثل هذا النوع من العلاج، لا يصلح إلا لمهرجانات غنائية، أو فعاليات سياحية، أو نشاطات اجتماعية. في العالم العربي لا تخرج قضية حماية المستهلك وحقوقه من هذا الإطار، على الرغم من أنها لا تقل أهمية عن قضايا التعليم، والتأهيل الوظيفي، والبيئة، والصحة، والتربية، والأمن العام، وغيرها من القضايا التي تشكل مكنونات المجتمع. علما أن بعض هذه القضايا تخضع أيضا - عربيا – للتعاطي الموسمي، بل أن بعضها يوضع على الرف. لقد شاءت الصدف – ولست أنا – أن يتزامن هذا المقال مع حلول شهر رمضان المبارك، في خضم موجات لا تهدأ في غالبية الدول العربية – ستهدأ لاحقا – ليس من أجل توعية المستهلك بالأسعار التي سيرفعها التجار الجشعون، أو أولئك المحتكرون، بل لدفع هؤلاء إلى الرأفة بهذا المستهلك، الذي يستعد لشهر رمضان المتطلب تموينا، والذي يفوق عادة تموين واحتياجات الأشهر الأخرى.
لا مجال للتنظير هنا.. الحقيقة واضحة كقمر رمضان، فقد بات محتما على العرب أن ينقلوا قضية المستهلك، من مرحلة المطالبة بقوانين تسنها الحكومات، ومن عادة مطالبة الموردين والبائعين بعدم رفع أسعار المواد في المواسم، إلى مرحلة الوعي والثقافة الاستهلاكية للمواطن. وإلا فإن الحقوق ستظل ضائعة، والخسائر ستبقى كبيرة، و"حرية" الجشع ستواصل تسيدها المشهد الاستهلاكي – الاجتماعي، بينما سيستمر ضياع الأخلاق، في حضور الأنانية. ولأن الوعي الاستهلاكي غائب على الساحة العربية بشكل عام، فقد غاب عن المستهلك أن القضية لا تتعلق فقط بالمواد الغذائية، بل تشمل أيضا كل "المنتجات" التي يدفع ثمنها، وهذه ليست مرتبطة بشهر بعينه. فالوعي المطلوب في "السوبر ماركت"، ينبغي أن يكون حاضرا أيضا في شراء بوالص التأمين، وصفقات السفر والسياحة، والوجبات التي تقدمها المطاعم، والأسعار التي تتقاضاها الفنادق، والتسعير في المحال التجارية المختلفة، وأثمان وجودة الأجهزة المنزلية والمكتبية وغيرها، والاشتراكات في النوادي الصحية، والقروض المصرفية، وبطاقات الائتمان، ورسوم الاتصالات، وأقساط الجامعات الخاصة التي بدأت تعج بها البلدان العربية. بل لا أبالغ إن قلت: إن الوعي المطلوب عند المستهلك، ينطبق أيضا على ما يدفع لعمليات التجميل، التي أصبحت إنتاجا استهلاكيا حقيقا، بعدما تحولت من طرق لعلاج المصابين في الحوادث، إلى منتج يخضع لمعايير التسوق!
والقضية أيضا لا تنحصر في سعر السلعة الاستهلاكية، أو تكلفة الخدمة، بل تشمل أيضا معايير الجودة. وهذه أيضا غائبة بفعل غياب الوعي الاستهلاكي. نعم يمكن أن تحقق القوانين الحكومية الهادفة لحماية المستهلك غاياتها، لكنها لا تنشر الثقافة المطلوبة، التي تنتج بصورة أوتوماتيكية الوعي الضروري. فالرقابة الحكومية في هذا المجال حتمية بلا شك، لكن السلوك الاستهلاكي ضرورة حتمية. ولأن الحال هكذا، فإن الشركات – كلها- تتبع استراتيجية لا تعلنها عادة، ترتكز على دراسة سلوكيات المستهلك قبل إطلاق عملياتها التسويقية. فقد تغيرت المفاهيم الإنتاجية والتسويقية منذ سبعينيات القرن الماضي، عندما كان المستهلك يبحث عن المنتج. فاليوم المنتج هو الذي يبحث عن المستهلك. ولأن الأمر مصبوغ بهذا التحول الخطير، فقد آن الأوان – عربيا – لكي تتسلم الجمعيات الأهلية المهمة التثقيفية، وتضع آليات التوعية، مع وجود القوانين الحكومية. فالسلطات المختصة تعاقب، والجمعيات الأهلية تراقب، وبذلك يؤسس توزيع الأدوار للثقافة الاستهلاكية، وينمي الوعي عند المستهلك.
في بعض المجتمعات الغربية "الراشدة" تتكون جمعيات مختصة في كل شيء، من لبن الأطفال، إلى شراء العقارات، مرورا بكل المنتجات والخدمات التي تستهدف المستهلك. ويطلق على هذا النوع من الجمعيات في بلد كبريطانيا اسم watchdog أي ما يمكن ترجمته" كلب الحراسة"، وهو إشارة إلى وفاء كلب الحراس لصاحبه. وتقوم هذه الجمعيات بمهام الرقابة، ويكون لها عادة أعضاء متنفذين في مجلس العموم (البرلمان)، يمكنهم أن يحولوا أية قضية تشكل علامة – حتى لو كانت فردية– إلى موضوع يطرح للنقاش، إلى جانب القضايا الاستراتيجية الأخرى، التي عادة ما تناقش في هذا المجلس، بما في ذلك تلك المرتبطة بالأمن القومي. الجمعيات الأهلية هذه أصبحت في بريطانيا – رغم أهليتها – ذراعا مساعدا للحكومة في مختلف المجالات، لاسيما تلك المتعلقة بالمواطن وآليات معيشته. فالكشف عن قيام شركة ما بغش مستهلك ما، يحصن بقية المستهلكين، ويقدم للسلطات المختصة الأدلة الضرورية للعقاب.
بهذه الروح يجب أن تعمل الجمعيات الأهلية في كل مكان، وإلا أصبحت مجرد مكتب إعلامي يصدر البيانات الصحافية في المناسبات والمواسم. وإذا لم تستطع هذه الجمعيات أن تكون فاعلة، فإن أية خطة تضعها للتثقيف المطلوب، لن تحقق النتائج المطلوبة، ولن تنزع ثوب الموسمية عن التحركات الحكومية. لقد تبنت الأمم المتحدة في عام 1985 قرارا لحماية المستهلك، تضمن مجموعة كبيرة من البنود "الثورية"، في مقدمتها مساعدة الدول لتحقيق الحماية المناسبة لمواطنيهم كمستهلكين، وتسهيل عمليات الإنتاج وفق احتياجات المستهلكين ورغباتهم، وتشجيع خلق ظروف سوقية تمنح المستهلكين فرصا أكبر للاختيار وبأسعار أقل، وقبل هذا وذلك توفير الحماية القانونية للمستهلك باعتباره الطرف الضعيف. لكن لماذا لا يتم العمل على تحويل المستهلك إلى طرف قوي. أي من مجرد متلقي للمنتجات إلى طرف يحدد مسارها، ويؤثر في وجودها وجودتها وقيمتها السعرية؟!.
إن مثل هذا المطلب لا يهدف إلى حرب بين المستهلك والمنتج، بل يستهدف إيجاد آلية توفر المصلحة المشتركة للطرفين. فالأول قد يستغني عن منتج ما – ولنقل منتجات ما -، لكن كيف يستغني الثاني عن مصدر دخله؟.