المستهلكون هم الرابحون!!
لم تكن في نيتي مواصلة موضوع مقالي الذي نشر الأسبوع الماضي تحت عنوان "الحق على ماما تيريزا"، الذي تناولت فيه أثر الضرائب التي تفرضها الدول المستهلكة ـ لاسيما الغربية منها ـ على الوقود، المشتعل سعرا، لكن عاملين أساسيين دفعاني لإعادة تناول هذا الموضوع الحيوي. الأول: انتقاد المذيع المتألق في قناة "سي إن بي سي عربية" الزميل محمد عبد الرحمن، دعوتي للدول الغربية بإعادة النظر في مستوى ضرائبها الهائلة على الوقود، وذلك في حوار تلفزيوني معي ضمن برنامج "الملحق الاقتصادي". والعامل الثاني: إعلان ألستر دارلينج وزير المالية البريطاني تجميد العمل بقرار حكومي يفرض 2 بنس (الجنيه الاسترليني 100 بنس) كضريبة جديدة على كل لتر من الوقود، حيث كان من المفترض أن يبدأ سريان العمل بهذا القرار في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.
فقد كانت حجة الزميل عبد الرحمن، أن خفض الضرائب سيغري أصحاب المركبات بالتدفق إلى الشوارع والطرق العامة والاستمتاع بقيادتها لمدد أطول، وسينجم عن ذلك إنفاق أكبر، وعلى الصعيد البيئي تخريب أكثر، لكن القضية في الدول الغربية ليست كذلك، لأن ارتفاع أسعار الوقود يرفع بالضرورة تكاليف كل الأشياء، من سعر كيلو السمك إلى ثمن الكرسي، إلى أثمان المواد الغذائية المرتفعة أصلا وبصورة مخيفة، مرورا طبعا بالأجهزة المنزلية كلها، وأسعار تذاكر السفر والانتقال، والرسوم المختلفة، وكل ما يرتبط بالمعيشة. وإذا كان الخوف على البيئة، ففي الدول الغربية الأكثر استهلاكا للوقود بأنواعه، ضرائب عالية على إيقاف السيارات في المدن، وعلى دخول المركبات إلى مناطق محددة، غالبيتها طبعا في قلب هذه المدن، وهناك ضرائب تفرض على المركبات التي يستخدم أصحابها الطرق السريعة. أي أن هناك آليات "قمعية" أخرى ـ غير الضرائب ـ تجبر نسبة كبيرة من المركبات على الخروج من الطرق.
وهنا انتهي من الزميل عبد الرحمن المشاكس، لأنتقل إلى الوزير دارلينج الخائف، فهذا الأخير يعرف أكثر مني أن شعبية حزب العمال الحاكم في بريطانيا وصلت إلى الحضيض، بسبب الغلاء المستشري في البلاد، ما دفع أكثر من نصف مليون موظف إلى الإضراب، مطالبين برفع الأجور. ولعل أهم ما يلفت في هذا الإضراب الكبير أن نسبة كبيرة من المضربين كانوا من عمال وموظفي قطاع النقل. ولا تتحمل حكومة جوردون براون أية هزة شعبية، لأن رصيدها الشعبي قد لا يكفل لها الاستمرار في الحكم، فضلا عن أن مثل هذه الأزمات ستفقد الحزب الحاكم تأييد النقابات العمالية التقليدي له. فالضرائب المرتفعة كانت سببا أساسيا في تراجع وزير المالية عن العمل بفرض الـ (2 بنس) على كل لتر من الوقود، والغلاء كان سببا رئيسيا للإضراب. وربما سمع دارلينج كلام الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي، الذي طالب أخيرا بضرورة أن يقوم الاتحاد الأوروبي بتجميد الضرائب على الطاقة.
وعلى الرغم من المستوى المتدني للضريبة البريطانية المجمدة، إلا أنها إذا ما أضيفت إلى السعر الحالي للتر الواحد من الوقود (بنزين وديزل)، فإنها ستزيد من "اشتعال" الأسعار. والواقع أن الحكومات الغربية التي تفقد شعبيتها جراء الضرائب ككل، تزيد من أرصدتها المالية بصورة خيالية من الضرائب المفروضة على الوقود بالتحديد. ومن المفارقات أن الدول الغربية المستهلكة للنفط تجني أرباحا من هذه المادة المحركة للحياة، أكثر من الدول المنتجة، ففي الوقت الذي تطالب فيه بعض الصحف الأمريكية الموغرة بالجهل بـ "محاكمة منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" في المحكمة الفيدرالية"، تتجاهل ـ والأصح تجهل ـ حقيقة أن حكومتها تجني أرباحا من النفط أكثر من تلك التي تجنيها حكومات الدول المنتجة.
فليس من مصلحة "أوبك" أن يصل سعر برميل النفط الخام إلى 200 دولار أمريكي، لأن هذا قد يؤدي إلى ركود اقتصادي وانهيار الطلب والخاسر الأكبر ستكون "أوبك" نفسها، فأكثر الأوضاع مثالية هنا أن يكون سعر البرميل متوازنا ومستقرا. ولا نحتاج لمشقة لمعرفة زخم استفادة دول كبرى، مثل: فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، ألمانيا، والنرويج من ضرائب الطاقة، فقد جنت هذه الأخيرة ـ على سبيل المثال ـ 21 مليار دولار أمريكي سنوياً جراء الضرائب المذكورة، كما تجني بريطانيا 14 مليار دولار أمريكي، ووصل ريع الضرائب من الطاقة في بلد مثل كوريا الجنوبية إلى 13 مليار دولار. إضافة إلى الضريبة التي تفرضها قوانين الاتحاد الأوروبي على الوقود وهي بحدود 36 سنتا أمريكيا على كل لتر من البنزين أو الديزل، هناك ضرائب أخرى تفرضها الحكومات الأوروبية، فالضريبة البريطانية تصل إلى 80 في المائة، وفرنسا تفرضها بحدود 76 في المائة، وألمانيا 57 في المائة، وإيطاليا 72 في المائة، واليابان 53 في المائة، وتفرض الولايات المتحدة 34 في المائة على البنزين، و40 في المائة على الديزل. وأمام هذه الحقائق والأرقام والنسب، فإن النفط يتصدر قائمة المنتجات الأكثر عرضة للضرائب، ولا سيما في مراحل الاستهلاك النهائي، حيث تشكل الضريبة نحو 60 في المائة من السعر، الذي يدفعه المستهلك للحصول على برميل من المنتجات البترولية. ويعني هذا أن الضرائب المفروضة على الطاقة توفر موارد مالية هائلة لحكومات الدول المستهلكة، خصوصا الغربية منها، ما يعزز المفارقة بأن مداخيل الدول المستهلكة من الضرائب على الوقود تعادل أربعة أضعاف تقريبا إيرادات الدول المصدرة من بيع النفط الخام في الأسواق العالمية.
مرة أخرى، فالموضوع لا يرتبط بتدفق المركبات إلى الشوارع والطرق إذا ما تم تخفيض الضرائب على الوقود، ولكنه متصل بالـ (2 بنس) على لتر الوقود الواحد في بلد كبريطانيا، ومتماسك إلى أبعد الحدود مع أسعار الأشياء التي تكفل مسيرة الحياة، فسعر كيلو السمك لا يختلف عند المستهلك الفرد، عن تكاليف إطلاق مركبة فضائية عند دول كبرى.