الاقتراض مع وجود وفرة في الموارد.. هل هي أداة مالية فعّالة؟
إن الأحداث الاقتصادية التي حدثت أخيرا في العالم كأزمة الائتمان وإفلاس بعض الشركات الكبرى قد تطلب إعادة النظر في النظريات المالية التي يعتقد البعض من المختصين أنها من المسلمات والمتعلقة بأساليب الإدارة الأمثل للموارد المالية والتي تشجع المنشآت الهادفة للربح على الاقتراض بدلا من إعادة استثمار الأرباح (الأرباح المحتجزة) لأغراض تمويل العمليات التشغيلية (رأس المال العامل) أو التوسعات الرأسمالية الضخمة كالاستحواذ على شركة أخرى أو افتتاح مصانع وفروع جديدة. هذه النظريات تقوم على مبدأ الاقتراض بدلا من استثمار الأموال المتاحة، حيث تحقق عائدا على الاستثمار يتجاوز تكلفة الاقتراض (الفائدة) وبالتالي تحقيق الهدف المنشود وهو النمو والربحية وفي المقابل استخدام النقدية الموجودة كأرباح محتجزة لتوزيعها على المساهمين أو استخدامها في الاستثمار أو الاتجار في الأوراق المالية. وتسمى أبرز هذه النظريات بنظرية الرافعة المالية Financial Leverage.
اتباع هذه النظرية يحقق للمنشآت نموا شكليا وليس حقيقيا ويكون محفوفا بمخاطر عالية بسبب اعتماده بشكل كبير على الديون. فلو نتج عن النشاط الذي تم الاقتراض من أجله خسارة مثلا، فإن الخسارة ستكون مضاعفة وتؤدي إلى تآكل رأس المال نتيجة أن الأموال التي استخدمت هي من ملك جهة التمويل (غالباً البنك) التي لن تتحمل أي نسبة من الخسارة بل تستعيد أموالها بالكامل إضافة إلى الفائدة. وفي المقابل لو نتج عن النشاط ربح، ولكن حصل للمنشأة نقص في السيولة مما أدى إلى عدم تمكنها من سداد مديونيتها لجهة التمويل في الوقت المتفق عليه، فإن ذلك سيؤدي إلى تحمّل المنشأة فوائد إضافية على التأخير مما سيؤدي إلى انخفاض العائد على الاستثمار ويصبح النصيب الأكبر من النمو ذهب لجهة التمويل. وقد يَرُد البعض من أنصار هذه النظرية المالية أن العائد من الاستثمارات في الأوراق المالية يحقق عوائد جيدة بحيث تحقق المنشأة نموا في أكثر من مسار والاستفادة من النمو في أكثر من نشاط اقتصادي. وفي رأيي أن اتباع هذه النظرية يؤدي إلى تشتت نشاط المنشأة وعدم تركيزها على نشاطها الرئيس لدر الربحية، فلو حدثت هناك أرباح من الاستثمار أو الاتجار في الأوراق المالية فإن هذه الأرباح غير تشغيلية أي أنها لا تكتسب صفة الديمومة والاستمرارية نظرا لأنها مرتبطة بالعوامل والظروف الخارجية التي لا تمتلك إدارة المنشأة القدرة على التحكم المباشر بها وبالتالي لا تعكس نمو المنشأة الحقيقي وقدرتها على البقاء والمنافسة.
من المعروف سابقا، في جميع مجالات الحياة وليس فقط في النشاط التجاري، أنه لا يلجأ للدين إلا المحتاج ولم يكن مألوف أن يذهب صاحب الملاءة المالية للاقتراض لأي غرض ولكن هذه النظرية جاءت لتشجع على الاقتراض حتى ولو لم يكن هناك حاجة مدعومة بآراء مالية قد لا تكون صحيحة في الغالب.
هناك بعض الشركات الغربية العملاقة مثل مايكروسوفت Microsoftلم تلجأ إلى القروض لتمويل عملياتها التشغيلية وتوسعاتها الرأسمالية بل أعادت استثمار أرباحها واستطاعت تحقيق عوائد على استثماراتها دون تكلفة إضافية (الفائدة) ودون مخاطر عالية بل على العكس تماماً كانت تنمو وتتوسع بخطى ثابتة وقوية. وفيما يتعلق بمساهميها، فقد تبنت سياسة توزيع أسهم مجانية على الملاك وجعل من أراد منهم الحصول على النقد حرية بيع أسهمه في السوق والحصول على النقد. وعلى الجانب الآخر، هناك شركات كبرى بالغت في الاقتراض من أجل النمو مثل سلسلة أسواق كي مارت الأمريكية Kmart والتي وصل عدد فروعها إلى 2114 فرع في جميع أنحاء الولايات المتحدة وبعد أن بلغ حجم مديونيتها مليارات من الدولارات الأمريكية انتهى بها المطاف إلى إعلان الإفلاس للتخلص من مديونيتها للدائنين وذلك في آذار (مارس) من عام 2002م وكانت قد بدأت نشاطها قبل هذا التاريخ بنحو قرن من الزمان.
ختاما، يجب أن نعيد النظر في السياسات المالية والاقتصادية المتبناة لدينا والتي نعتقد أنها من مسلمات العصر ونحاول ابتكار سياسات أفضل تتناسب مع خصوصيتنا وتحقق نمواً اقتصادياً حقيقياً وليس شكليا مما سينعكس ـ بإذن الله ـ على مستوى رفاهية المواطن في هذا البلد الكريم.