إصلاح الخلل الهيكلي في الاقتصاد مقدم على السياسات النقدية في مواجهة التضخم
أخذ موضوع مواجهة التضخم جدلا واسعا وبأطروحات عديدة، وقد شارك فيها متابعون للشأن الخليجي خصوصا السعودي من الداخل والخارج على اعتبار أن المنطقة أصبحت منطقة جذب اقتصادي لما تدره من فوائض نتيجة ارتفاع أسعار البترول.
وقد أعلنت مؤسسة النقد السعودي أن عرض النقد (ن3) وهو أوسع مقياس للنقد المتداول في الاقتصاد السعودي نما بنسبة 21.6 في المائة في نهاية أيار (مايو) 2008 إلى 844.4 مليار ريال مقارنة بـ 694.18 مليار ريال في الشهر نفسه من عام 2007، كما ارتفع صافي استثمارات مؤسسة النقد الخارجية في الأوراق المالية نحو 1.032 تريليون ريال في نهاية أيار (مايو) 2008 مقارنة بـ 720.4 مليار ريال قبل عام.
وحاولت مؤسسة النقد ضبط إيقاع تزايد ارتفاع التضخم في السعودية لجأت إلى رفع الاحتياطي الإلزامي في البنوك منذ بداية هذا العام حتى الآن ثلاث مرات بنسبة 39 في المائة إلا أن الائتمان الداخلي المقدم من البنوك في تزايد مستمر ارتفع 17 في المائة ليصل 889.2 مليار ريال رغم محاولات مؤسسة النقد الحد من القروض.
رغم ذلك ارتفع التضخم إلى 10.5 في المائة منذ 30 عاما مرتفعا من 9.6 في آذار (مارس) 2008.
وتصر كثير من الطروحات على أن سبب التضخم في دول الخليج يعود لسياسات سعر الصرف الثابت بجانب ارتباط عملات الخليج بالدولار مما أجبر البنوك المركزية في الخليج على مجاراة نسب الفائدة الأمريكية، فأدى إلى ارتفاع تكلفة الواردات بالعملات الأخرى لأن الواردات الأمريكية إلى السعودية مثلا لا تزيد على 12 في المائة فقط وبقية النسبة بعملات أخرى. وأصحاب هذا الطرح يطالبون الانتقال إلى سياسة ربط الريال بسلة عملات ذات وزن ثقيل مثل اليورو أو إلى سعر صرف عائم تحدده السوق. لأنهم يعولون على اقتصادات ناشئة استطاعت أن تنتهج سياسة ناجحة في مكافحة التضخم بعد التخلي عن ارتباطها بالدولار خصوصا أن تلك الطروحات ترى في ارتفاع سعر الفائدة تحفظ الأموال من الخروج، وفي الوقت نفسه تتدفق أموال جديدة إلى المنطقة بجانب وضوح القيمة المستقبلية للريال بالنسبة للمستثمرين خصوصا أن السعودية لا تواجه أثرا ينعكس على صادراتها لأن الصادرات السعودية معظمها نفط أو تتعلق بالنفط.
وعند تشخيص أسباب التضخم فإنه يرجع إلى الزيادة المتواصلة إلى أسعار الإيجارات التي ارتفعت ثلاثة أمثال منذ 2002 إلى جانب ارتفاع أسعار السلع الغذائية في السوق المحلية التي تشهد أسعارها في السوق العالمية إلى تزايد مستمر. إضافة إلى تقاعس دول الخليج عن الاستثمار خلال الـ 15 عاما الماضية في مشاريع البنية التحتية ولم تدرك الحاجة إليها إلا أخيرا.
ولكن هناك جانب إيجابي تسير فيه دول الخليج لاستغلال الطفرة الحالية تختلف عن سابقاتها باعتماد استراتيجية تقوم على الذهاب إلى ما هو أبعد من السوق المحلية والإقليمية أي متحررة من الارتباط بالدولار والتغلب على صغر حجم اقتصاداتها.
وبدأت الشركات الكبرى بالفعل في المنطقة مثل "سابك" التي تعد من كبرى عشر شركات للبتروكيماويات في العالم استحوذت بعمليات كبيرة في بريطانيا وهولندا وستواصل التوسع وتقتفي أثرها شركات سعودية وخليجية في قطاعات أخرى مثل الصناعات الغذائية.
وسترتفع صناديق الثروة السيادية (أو تحت أسماء أخرى تحاشيا للرقابة) ذات القوة المالية الهائلة إلى ثلاثة أو أربعة أمثالها في غضون خمس إلى عشر سنوات إذا ظلت أسعار النفط عند المستويات الحالية، ويمكن لهذه الصناديق أن تمارس نفوذا ماليا تتبنى نهجا عمليا في استثماراتها بعيدا عن البعد أو النهج السياسي، وستصبح هذه الصناديق شركات قوية على غرار الشركات العابرة للقارات ذات إدارة رشيدة وشفافة.
وهذا يبرهن على مدى الأهمية التي تكتسبها منطقة الخليج في لعبة الشطرنج العالمية على مسرح البورصات العالمية، وتتخذ دول الخليج منهج الصفقات التي تؤمن شريكا أجنبيا لديه التكنولوجيا والخبرة اللازمتان لتحويل سوق الأوراق المالية في المنطقة إلى منصات للأسهم ومشتقاتها والسلع.
وقد حققت دبي بالفعل بداية متقدمة في عالم البورصات المتطورة، وأن هناك خططا لنشر هذا الأسلوب في عموم المنطقة. فمثلا بورصة نيويورك يورونيكست تقوم بأكبر استثمار عالمي لها حتى الآن لتأمين حصتها في منطقة الخليج التي تنمو بسرعة التي تتم فيها ترجمة الأسعار القياسية للنفط إلى مدد لا ينتهي من السيولة.
وكما يقول دنكاس نيديرأور الرئيس التنفيذي لبورصة نيويورك، إن هذه العلاقة لها طابع استراتيجي أكبر بكثير، أي أن هذه العلاقة مثل بقية العلاقات هي في صميم استراتيجية النمو والإصلاحات في المنطقة كي تتهيأ لأن تزيد حجم صادراتها المتنوع الهائل.
فنحن إذن نحتاج في الوقت الحاضر إلى عامل القدرة على إدارة الثروات أكثر من حاجتنا إلى سياسات نقدية مستقلة حتى نتجاوز الخطوط الحمراء التي أعاقت نمو اقتصاداتنا في الفترة الماضية والاندماج في الاقتصاد العالمي.
والمنطقة لديها القدرة على استيعاب التدفقات النقدية الهائلة وهي ليست أضخم من اقتصادات المنطقة مثلما تحذر بعض التقارير لأن المنطقة لديها مشاريع إنمائية ضخمة يمكن تمويلها مثل مشروع بناء ست أو سبع مدن اقتصادية جديدة في السعودية.
أي لا بد أن يحسن الخليجيون كذلك استثمار وتوظيف وإدارة نفوذهم المالي سياسيا كي يصبح الغرب بإرادته أو مكرها داعما رئيسا للتطلع الخليجي إلى لعب دور أكبر في المنطقة.
فلا بد أن ينصب تركيزنا في الوقت الحاضر على التوظيف والاستغلال الأمثل للفوائض البترودولارية إلى جانب الاستفادة القصوى من إمكانات الشراكات الجديدة لتوطين القدرات في المنطقة كي نتحول إلى منطقة اقتصادية محورية تمتلك أصولا حقيقية يمكنها من امتلاك القدرة على التكيف مع أي نظام كان والابتعاد عن الأصول الوهمية التي ستفضي إلى استمرار التبعية كي نسير نحو الهدف الصحيح.
فإصلاح الخلل الهيكلي تلقائيا يعالج جذور التضخم على المديين المتوسط والبعيد بينما معالجة التضخم الناتج عن الطفرة الاقتصادية الحالية والنمو السريع والتي مرت بها كل الدول الناشئة، وشيء طبيعي أن يرافق النمو السريع ارتفاع مكونات الطلب الكلي من طلب استهلاكي واستثماري بشقيه المحلي والأجنبي، وكما له انعكاسات سلبية على التضخم، فإن له كذلك انعكاسات إيجابية أيضا في معالجة التضخم أقلها توفير الفرص الوظيفية التي فشلت جهود السعودة السابقة في حل مشكلة البطالة. أما ارتفاع مستوى المعيشة فإنه راجع ليس فقط إلى النمو المتسارع وإنما أيضا إلى الخلل الهيكلي في البنية الاقتصادية وتأخر تحرير القطاعات الاقتصادية أمام المنافسة كالمياه، الكهرباء، الصحة، الإسكان، والنقل أسوة بقطاع الاتصالات لتكون الأسعار في متناول المستهلك بأقل الأسعار ومتوافرة بجودة عالية.
فالمراهنات على السياسات النقدية انتهت منذ نيسان (أبريل) 2008 عندما اتفق حكام الخليج على أنهم لا يعتزمون التخلي عن ربط عملاتهم بالدولار أو رفع قيمتها قبل تحقيق الوحدة النقدية في الخليج كهدف أساسي ورئيسي وإن كانت هناك ثلاثة عوامل ستؤثر في التقيد بموعد إصدار العملة المقرر عام 2010 بسبب ارتفاع نسب التضخم، وقرار عمان في عام 2006 بعدم الانضمام إلى العملة الموحدة، وخرجت الكويت عن الإجماع مع جيرانها في عام 2007 وألغت ربط عملتها بالدولار الأمريكي.
وعندما تصل دول الخليج إلى إقرار وإصدار العملة الموحدة والتحرر من اقتصاديات النفط يمكن حينها الاتجاه نحو تنويع احتياطيات البنوك وتنويع الاستثمارات بعيدا عن الدولار رغم أن الدولار يمتلك من الاحتياطيات النقدية العالمية أكثر من 63 في المائة، وجملة تدفقاته بالدولار من قبل صناديق الاستثمار الأمريكية نحو الخارج خلال أربع سنوات حتى نهاية عام 2007 نحو 1200 تريليون دولار أي أكثر من ضعف الناتج العالمي عام 2007 (59 تريليون دولار).
فالقضية إذن ذات أوجه وزوايا عديدة لا بد من دراستها بعناية فائقة للوصول إلى القرارات الصائبة.