"شاطبو" الديون العراقية.. مصالح وأخلاق
"لا تتعامل مع الديون على أنها عقبة...فذلك هو البؤس"
الأديب الإنجليزي صمويل جونسون
120 مليار دولار أمريكي ربما.. 140 مليارا قد يكون.. 160 مليارا ليس مستبعدا، هذه نماذج من بعض تقديرات مستوى الديون الخارجية للعراق. فالفوارق بين الأرقام كبيرة، لكن أحدا لم يستطع – حتى الآن – أن يحدد المستوى الحقيقي لها، إلا أن المؤسسات المالية العالمية، ومعها الدول المعنية بهذه الديون – خصوصا الغربية - "يطيب" لها أن تحدد 120 مليار دولار كسقف للديون العراقية، التي تزداد على مدار الساعة، طبقا لآليات "خدمة الديون". وحسب التقديرات فإن نصف هذه الديون تعود إلى "نادي باريس" للدائنين بما فيها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، أما النصف الآخر فهو موزع بين الدول العربية وعدد من دول أوروبا الشرقية – الكتلة الشيوعية السابقة - وبعض المصارف والشركات. وأيا كان المستوى، فإن الغالبية العظمى من هذه الديون يعود تاريخها إلى ما قبل ثلاثين عاما، أي في الفترة التي حكم فيها صدام حسين العراق، وارتكب مجموعة مدمرة من الأخطاء، في مقدمتها احتلاله الهمجي للكويت. وأمام "هول" هذه الديون المتراكمة والمتزايدة في آن معا، هناك تحركات دولية وإقليمية تمت – وأخرى في الطريق - إما بإلغائها، أو إعادة جدولتها، أو شطب أجزاء منها. فالهم الناتج عن هذه الديون لم يعد يرتبط بالماضي، بل متعلق بالمستقبل، خصوصا في ظل الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية – وبالطبع السياسية – الكبرى لهذا البلد.
وعلى الرغم من الدلالات "الأخوية" للخطوة التي أقدم عليها صندوق النقد العربي أخيرا، بشطب 125 مليون دولار أمريكي من ديون العراق للصندوق، من أصل 500 مليون دولار، إلا أنها – أي الخطوة – تبقى على الصعيد العملي متواضعة، مقارنة بالحجم الهائل لكامل الديون، لكنها ليست كذلك، من الناحية الأخلاقية – ولنقل العاطفية – على اعتبار أن الخطوة أتت من مؤسسة عربية، يهمها أن تقدم شيئا للعراق، بصرف النظر عن مستواه. وليس مستبعدا – حسب مصادر الصندوق – أن يقدم مستقبلا على شطب ما تبقى من هذه الديون، غير أن القضية ليست هنا بحقيقتها، بل هناك. أي أنها ليست في المنطقة العربية، بقدر ما هي خارج هذه المنطقة.
الدول التي شطبت أو خفضت أو أعادت جدولة ديون العراق، وضعت شروطا لا شك أنها واقعية، لكنها بالتأكيد ليست أخلاقية مائة في المائة. فهذه الدول تريد أن يكون لها حصة في عملية إعادة إعمار العراق، أي أن تحصل شركاتها على عقود واتفاقيات – كما هو الحال مع روسيا - بصرف النظر عن تأثر العراق بالصراعات السياسية بين الدول التي شاركت في إسقاط نظام صدام، وتلك التي امتنعت عن ذلك. فالذين أسقطوا النظام يسعون لمكافأة أنفسهم، ويريدون في الوقت نفسه أن يؤكدوا أن من لا "يزرع" لا مكان له في عملية الحصاد. فقد كان الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي يستعد للرحيل واضحا حين أعلن: إن عقود إعادة الإعمار لن تذهب إلا للشركات التي أسهمت دولها في الحرب، الأمر الذي دفع دولا مثل فرنسا وألمانيا وروسيا إلى توجيه انتقادات شديدة له.
على كل حال ستتواصل "الصراعات" الدولية للحصول على أكبر عدد من العقود في العراق، في كل المجالات، من إدارة الفنادق، إلى تدريب الجيش والأمن والشرطة، إلى بناء الجسور ومد الطرق، مرورا طبعا ببيع الأسلحة والمعدات وغيرها. وكل دولار أمريكي واحد يتم شطبه أو إعادة جدولته، لن يكون إلا على قاعدة المصلحة. فالدول المعنية مباشرة في عملية إسقاط نظام صدام، تريد التأكيد من خلال هذه العقود التي تقدر بمئات المليارات من الدولارات، بأن هناك ما يمكن الحصول عليه في المقابل، وإن فشلت – حتى اللحظة – في إقناع الرأي العام لديها، بالأسباب الأخلاقية لإسقاط صدام. بالطبع إننا لا نتوقع أن تنظر هذه الدول إلى القضية من منظار "جمعية خيرية"، لكن أيضا هناك أساسيات أخلاقية تدعم المصلحة، ولا تتعارض معها، وتزيل كل الرواسب والسلبيات، لدعم علاقة لا تنتهي بانتهاء المشروع، بل تستمر إلى ما بعد ذلك، فمثل هذه العلاقات لا تستمر وفق معايير آنية، بل على أساس موازين استراتيجية.
وهنا تنظر بعض الدول، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، إلى هذه القضية من زاوية أخرى. فقد تعهدت بالنظر في "تخفيف" ديونها المستحقة على العراق، التي تصل إلى نحو 40 مليار دولار أمريكي، لكن يجب أن تكون هناك حلول لأزمة الحكم التي يشهدها العراق، ولاسيما مع عدم وضوح الرؤية سياسيا. يضاف إلى ذلك أن وجود حكومة قوية في بغداد، لا يمكن أن يتحقق من دون نجاح مصالحة وطنية، فضلا – طبعا - عن عدم وجود خطة لإصلاح الاقتصاد، وغياب الأمن العام، مع الاعتراف هنا بتحسن الوضع الأمني أخيرا بصورة جزئية. فأي عملية اقتصادية تصب في مصلحة العراق، لا بد أن تستند إلى أرضية المصالحة الوطنية الغائبة – حتى الآن – وإلا فإن الفوائد التي ستنجم عن شطب الديون لن تظهر على الأرض، بل ربما تضيع في ظل غياب الحالة الوطنية. فالدول التي تهتم بهذه الناحية، عبرت عن اقتناعها بأهمية تخفيف حدة الديون عن العراق، لكنها تريد في الوقت نفسه أن ترى ثمار هذه الخطوة الأخلاقية. فالمملكة - باعتبارها أكبر دائن عربي للعراق- عبرت عن استعدادها لشطب أكثر من 80 في المائة من هذه الديون، لكن التجارب السابقة - خصوصا مع العراق - تحتم أن تتم العملية بصورة واقعية وفاعلة. وقبل هذا وذاك بصورة أخلاقية. وإذا كانت عمليات شطب الديون العراقية مشروطة بمشاريع وعقود – كما هو الوضع في الحالة الروسية وغيرها – فإن هناك عمليات شطب للديون مرهونة بالحد الأعلى لفائدة الشعب العراقي. وهذه الأخيرة هي الأهم.