نووية.. لكنها رصينة

نووية.. لكنها رصينة

كل تطوير في الحضارة يكون متهماً وهو لا يزال حديثاً.
برتراند راسل ( فيلسوف إنجليزي)

نعم.. من حق السعودية ـ كغيرها من الدول - التناغم مع متطلبات المستقبل، والحصول على الطاقة النووية الضرورية لأغراض سلمية. فهذا النوع من الطاقة لم يعد حكرا على "نادي النخبة" - وليس مطلوبا أن يكون كذلك - بل بات أساسيا في خضم النمو الاقتصادي الكبير الذي تشهده المملكة، فضلا عن أهميته في التعاطي مع التحولات الكبيرة على الساحة الدولية فيما يرتبط بالطاقة المتجددة. ولذلك ليس غريبا أن توقع المملكة التي تتمتع بأكبر اقتصاد عربي قاطبة، على مذكرة تعاون مع الولايات المتحدة ، "للتسلح" النووي السلمي، بل ربما الغريب أن تكون المركز الثالث – لا الأول - في منطقة الخليج العربية – بعد الإمارات والبحرين – في هذه الخطوة.
نحن نعلم أن المملكة في سعيها للحصول على هذه الطاقة المتطورة، ليس لديها أجندة في نطاق سباق التسلح، ولا ترغب في خوض غمار هذه "اللعبة الخطرة"، فقد تكرست سمعتها على مدى العقود الماضية، بأنها دولة تريد أن "تتورط" في السلام، لا أن تنخرط في حروب، وتسعى إلى أن تكون علامة فارقة في سياسة الانفراج، لا في معمعة التصعيد. وقد ظهرت هذه المزايا في كثير من مواقف المملكة – على الساحتين الإقليمية والدولية – لعل في مقدمتها اقتراح وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، أن الدول الخليجية العربية مستعدة لإنشاء تجمع لتزويد إيران باليورانيوم المخصب، لنزع فتيل المواجهة بين طهران والغرب بشأن البرنامج النووي الإيراني، ولاسيما أن هذه المواجهة تزداد حدتها كلما ازداد غموض النشاط النووي الإيراني، وظهرت الأولويات الإيرانية جليا. ومضى الفيصل أبعد من ذلك عندما اقترح إقامة كونسورتيوم لكل مستخدمي اليورانيوم المخصب في الشرق الأوسط. هذا الاقتراح يعرض بوضوح موقف الرياض بضرورة وجود قوة نووية سلمية شبه موحدة، لتستفيد الدول المعنية من الإيجابيات النووية، ولتبتعد في الوقت نفسه عن إغراءات هذه الطاقة عسكريا. فحسب المفهوم الرسمي السعودي فإن القضية برمتها لا تتعلق بصراع، أو نزاع، أو خلاف، بل ترتبط مباشرة بمعارك التنمية المحلية والإقليمية، وباستحقاقات لا أحد يستطيع تجاهلها إذا ما أراد أن يكون ضمن المسيرة العالمية، أو داخل الفريق الذي يرسم معالم المستقبل.إذن.. الموضوع ليس استعراضيا بل ضروري، وليس ارتجاليا بل مدروس، وليس مرحليا بل استراتيجي.
إن أي مراقب لا يواجه صعوبة في تحديد احتياجات المملكة من الطاقة النووية السلمية، وهي تعيش نهوضا عمرانيا ونموا اقتصاديا متسارعا ومتوازنا، ما يتطلب وضع هذه الطاقة في صلب عمليات البنى التحتية. فالمملكة – وبقية دول الخليج العربية – تحتاج إلى تطوير دائما – على سبيل المثال- للطاقة الكهربائية، ولصناعة تحلية المياه، فالطلب عليهما لابد أن يدفع في إطار حصول السعودية على الذراع النووية السلمية، مع الأخذ في الاعتبار أن الطاقة النووية تشكل أكثر من 20 في المائة من الطاقة المولدة في العالم. ولا شك أن الاعتماد على الطاقة النووية سيحافظ على الثروات الطبيعية – كالنفط والغاز – لاستخدامهما في مشاريع أخرى. كما أن توفير الطاقة الكهربائية والمياه الناتجة من عمليات التحلية، سيكونان أقل تكلفة، وبالتالي سيقدمان بأسعار مناسبة للمستهلك. وطبقا لآخر الإحصائيات، فإن الطلب على المياه في السعودية سيرتفع بنسبة 67 في المائة بحلول عام 2024، كما أن الطلب على الطاقة الكهربائية سيزداد بنسبة 230 في المائة بحلول العام المذكور. والأمر كذلك بالنسبة لبقية دول الخليج العربية، مع اختلاف حجم الطلب طبقا لضرورات النمو في كل دولة.
وطبقا لعدد من الخبراء السعوديين فإن محطات التوليد التي تعتمد على الطاقة النووية تنخفض فيها تكاليف إنتاج الطاقة الكهربائية بمعدل 44 في المائة، وتكاليف مياه التحلية 30 في المائة. وإذا ما عرفنا أن المملكة هي أكبر دولة في العالم في مجال تحلية المياه، فإننا نفهم ضرورة وجود الطاقة النووية السلمية في هذا البلد. إلى جانب ذلك نشاهد بصورة يومية الارتفاعات التاريخية – بل المذهلة – لأسعار النفط في الأسواق العالمية المرشحة للوصول إلى 200 دولار للبرميل الواحد مع نهاية العام الجاري، ويبدو أننا من الآن وحتى الموعد المتوقع سنتحرر من ذهولنا!. فتوليد الطاقة الكهربائية وتحلية المياه يعتمدان بصورة رئيسة على النفط، مع وجوب عدم النسيان بأن النفط والغاز ثروتان طبيعيتان قابلتان للنضوب. وإذا كانت هناك من إيجابيات لارتفاع أسعار النفط، فإنها تتمثل في وفرة السيولة لدعم البرامج النووية السلمية، تماما كإيجابياتها الراهنة في حركة النهضة والتنمية في الدول النفطية. وتدفع هذه الوفرة المالية أيضا إلى التركيز على تكريس الطاقة المتجددة، وتطويرها، وتأسيس ثقافة شعبية للطاقة النووية تحديدا. فعلى سبيل المثال استغرق الأمريكيون العاديون مساحة من الزمن لكي يفهموا أهمية الطاقة النووية في استخداماتها السلمية. لكن الأداء الاقتصادي القوي والمأمون للطاقة النووية في الولايات المتحدة، وتزايد الوعي بالمزايا التي تعود على البيئة من استخدام الطاقة النووية النظيفة شكلت لديهم الأساس لإحياء هذه الطاقة الذي يمكن أن يدعم تأمين توفير الطاقة والازدهار الاقتصادي ويحقق أهداف حماية البيئة في الولايات المتحدة خلال القرن الـ21. ولكي نكون أكثر موضوعية فإنه لا تزال هناك شرائح في المجتمعات الغربية بشكل عام، تنظر بتوجس إلى الطاقة النووية. لكن في النهاية تظل هذه الشرائح دون المستوى العملي لإحداث أي تغيير في المنهج القائم. وباستثناء كارثة المفاعل النووي السوفياتي السابق (تشرنوبيل) في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، فإن شيئا لم يحدث على صعيد المخاطر في هذا المجال على الساحة الدولية.
ومن هنا فإن السعي العربي – وتحديدا الخليجي – للحصول على الطاقة النووية السلمية، هو بمثابة غطاء لتنويع الاقتصاد ولسد الاحتياجات الحقيقية التي تصب في مصلحة شعوب المنطقة ككل، لا غطاء للحصول على أسلحة نووية. ولأن المفاعل النووي – أي مفاعل – يمكنه أن ينتج ما ينير المدينة، وما يدمرها، فالأمر يحتاج إلى النضج والانفتاح، لا إلى السرية والانغلاق. وهذا ما تفعله المملكة محليا وإقليميا ودوليا.

- اقتصادي وإعلامي عربي

الأكثر قراءة