الصكوك تكفكف دموع اليتامى

الصكوك تكفكف دموع اليتامى

لن تستطيع إلا أن تقف وقفة إجلال وإكبار إذا تأملت الدور العظيم الذي أداه الوقف في بناء الحضارة الإسلامية بشتى جوانبها العلمية والفكرية والاجتماعية والصحية بل والعسكرية منها والاقتصادية منذ بزوغ فجر الإسلام الأول وبعثة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
تأمل تاريخَ الحضارة الإسلامية من أقصى المشرق الإسلامي إلى غربه في الأندلس وستجد الوقف قد بنى المدارس والجامعات والمراكز البحثية المتخصصة في فروع العلم والمعرفة المختلفة، وأنفق على العلماء والباحثين، بل بُنيت المستشفيات وأُنشِئت دور الرعاية الاجتماعية باختلاف أنواعها من خلال الوقف. وما ذاك إلا قطرة من بحر إنجازات الوقف في بناء الحضارة الإسلامية.
إلا أن حديثي في هذه الحلقة ليس عن أهمية الوقف وتاريخه، بل ما أود الوقوف عنده هو عن الدور الكبير الذي يمكن أن تؤديه الصكوك في تمويل الجهات الخيرية وأعمال البر، وتعظيم نفعها، والارتقاء بمستوى إدارتها المالية.
إني أعني بـ "الجهات الخيرية" في هذا المقال، أعمال الخير والبر بمفهومها الواسع الذي لا يقتصر على بناء المساجد وإطعام الفقراء وإيواء الأيتام فحسب بل يشمل هذا الجانب المهم وغيره من الأعمال المباركة النبيلة التي تؤدي إلى بناء حضارة الأمة ونهضتها، مثل: دعم البحث العلمي، ورعاية الموهوبين والمخترعين، وتعليم الشباب والفتيات وتدريبهم، ودعم مشاريعهم الناشئة، والإصلاح الأسري، والمشروعات الإعلامية البناءة، وجمعيات النفع العام عموماً.. وغيرها الكثير الكثير.
يمكن للجهات الخيرية ومن خلال الصكوك تمويل بناء مشاريع تجارية كبيرة كأسواق أو فنادق أو أبراج ومجمعات سكنية وتجارية تكون وقفاً يُرِيع دخلاً ثابتاً ومستمراً يدعم هذه الأنشطة ويضمن استمرار أداء رسالتها النبيلة، مع تحقيقها فائدة استثمارية لحملة الصكوك.
ولتقريب الصورة إلى الذهن بشكل ملموس وواقعي، فإني أضرب مثالاً افتراضياً مختصراً على مشروعٍ عظيمٍ عملاق يُعَد مفخرة لكل مسلم ومسلمة، ألا وهو وقف الملك عبد العزيز ـ رحمه الله، الذي أوقفه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن العزيز ـ حفظه الله ورعاه - على المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، هذا المشروع العملاق فكرته الأساسية تقوم على منح شركة عقارية معروفة ومتخصصة حق امتياز استغلال الأرض الوقفية ببنائها وتشييد مشاريع عملاقة عليها من أبراج سكنية وتجارية وما يتبعها من بِنْيَة تحتية، نظير استثماره لمدة خمسة وعشرين عاماً، يكون ريعه بالكامل بعدها للحرمين الشريفين.
إن هذا المشروع المبارك وأمثاله، يمكن تعظيم نفعه من خلال الصكوك؛ بحيث تقوم الشركة العقارية المعروفة ذات حق الامتياز بالتعاقد مع وسيط مالي لتمويل بناء المشروع كلياً أو جزئياً عبر إصدارٍ أو إصداراتِ صكوك يكون حملة الصكوك بمقتضاه هم ملاك المباني على الشيوع؛ ثم يقوم حملة الصكوك بتأجير هذه المباني على الشركة المتخصصة مدة الخمسة وعشرين عاماً بأجرةٍ تكفي لردِّ رأسمال حملة الصكوك وأرباحهم، وفي الوقت نفسه تربح الشركة العقارية المتخصصة بتأجير المشروع من الباطن بأكثر مما ما استأجرته به من حملة الصكوك، وفي نهاية الخمسة وعشرين عاماً تنتقل ملكية أصل المشروع ومنفعته لأوقاف الحرمين الشريفين.
وفي هذا المثال وغيره ومن خلال التمويل بالصكوك تكون الأطراف كلها قد ربحت؛ فالجهة الخيرية قد امتلكت بعد خمسة وعشرين عاماً ـ على سبيل المثال - مشروعاً تجارياً عملاقاً مدراً للربح دون أن تدفع ريالاً واحداً، وسواء أكانت تملك أرض المشروع أم لا، أو ساهمت بجزء من نفقات المشروع وكانت شريكاً مع حملة الصكوك في بنائه أم لا، وكذلك انتفع حملة الصكوك من بنائهم المشروع وتأجيرهم إياه لمدة محددة استردوا خلالها رأس مالهم مع الأرباح، مع نيلهم الأجر العظيم ـ إن احتسبوا الأجر- وفي الوقت نفسه انتفعت الشركة العقارية المتخصصة من خلال استئجار مشروع ضخم بأجرة مميزة استطاعت تأجيره من الباطن بأكثر مما استأجرته به، بل واستفاد المجتمع كله بتحريك العجلة الاقتصادية في البلد ومن أموال أبناء البلد، مع توفير موارد إضافية للجهات الخيرية تدعمها في تحقيق رسالتها السامية، وما سيتبع ذلك من آثار اجتماعية واقتصادية إيجابية كثيرة يصعب حصرها في هذا المقام.
ارفع معي أكفَّ الضراعة إلى الله أيها القارئ الكريم.. نسأله سبحانه أن يُقِرَّ عيني وعينَك برؤية ركب الصكوك يتقدم إلى الأمام في هياكل جديدة بعيدة عن الحِيل المحرمة.. برؤية ركب الصكوك ينتقل إلى الأمام بدعمه الأعمال الخيرية.. فنرى صكاً يُدعم به المخترعون من أبنائنا.. وصكاً تُبنى به مراكز البحوث والدراسات.. وصكاً يُزوَّج به الأيامى وتكفكف به دموع اليتامى..
قل عسى أن يكون قريباً.. وما ذلك على الله بعزيز..

باحث في المصرفية الإسلامية ومتخصص في الصكوك الإسلامية.
[email protected]

الأكثر قراءة