الطمع والجشع والاستغلال من أسباب ما حصل لأسواق المال!..

المتمعن فيما كان يجري في القطاع الاقتصادي في العالم، خلال العقد الأخير مما كانت تمارسه المؤسسات المالية، على اختلاف أنواعها ومجالات عملها، من تسابق محموم لاستغلال حاجة الناس، أفرادا ومؤسسات وتكبيلهم بالديون والقروض ذات الفوائد المتحركة المتراكمة انطلاقا من قاعدة الغاية تبرر الوسيلة. المتمعن في ذلك لا بد أنه كان يلمح بوادر تنبئ عن خلل ما، مفاده أنه بعد أن كانت العلاقة بين المؤسسات المالية وبين المتعاملين معها مبنية على الثقة، وحاجة كل طرف إلى آخر، وأن استمرار التعاون ضمن هذا الإطار فيه إعمار للعالم وازدهار لاقتصاده، انقلبت الأمور وتلاشت الثقة وفقدت المصداقية وأصبح الشك والريبة هما ما يسود ويقود العلاقة وبعد أن كانت مصلحة الأطراف تتمثل في كون المؤسسات المالية هي الملاذ الآمن لحفظ الأموال واستثمارها وتنميتها ثم ضخها في شرايين الاقتصاد بتكلفة معقولة لتنتج سلعا ووظائف وخدمات تضمن نمو هذه الأموال وعودتها إلى مؤسساتها لتدخل من جديد في ثنايا الاقتصاد, أصبحت هذه المؤسسات تبالغ في تقدير تكاليف عملياتها، تحت وطأة التسابق المحموم بينها لتحقيق أعلى معدلات الربحية وتغطية التكاليف المتصاعدة للإدارة ولا سيما حصص المديرين التي وصلت إلى مستويات غير معقولة.
وشيئا فشيئا، أصبح المدينون للمؤسسات المالية يشعرون بالغبن للهوامش الكبيرة للفوائد التي يحس بعضهم أنها تفوق قدرته على الوفاء وأن حاجته استغلت للمبالغة في تقديرها الأمر الذي نتج عنه تخلف بعض المدينين عن الوفاء بما عليهم إما عجزا وإما مماطلة لشعورهم بالظلم فأثر ذلك سلبا في موجودات تلك المؤسسات وبالتالي في قدرتها على توفير الدعم لطالبيه خاصة بعد أن تمادت في تصعيب شروطها تحوطا لضمان عدم المماطلة متجاهلة أنها بذلك إنما تعاقب الأوفياء من عملائها شأنها في ذلك شأن كثير من مؤسسات الإقراض التي تغطي عجزها عن إدارة قروضها واستردادها بمضاعفة تلك الشروط إمعانا في معاقبة العملاء.
والسبب الآخر هو الذي ألمحت إليه في مقال الأسبوع الماضي وهو الطمع والجشع الذي أصاب بعض المؤسسات المتعاملة في الرهن العقاري وأدى إلى التهاون بل قل التلاعب في مقدرات الناس بتدوير تلك الرهون وتحويلها إلى أصول وهمية لم تعد تساوي شيئا عند الحاجة إليها.
والغريب أن ذلك كله تم بمباركة من حكومة الرئيس بوش، وفي ظل تهاونها في تعزيز إجراءات الحماية والمراقبة، وكأنه لم يكف العالم منها ما جرّته من حروب وويلات ودمار طيلة عهدها حتى تودعه بهذه الكارثة المالية التي تصيبه في مأكله ومشربه والتي تقف شاهدا مع الشواهد الأخرى على أن عهد هذا الرئيس هو أسوأ عهد شهده العالم وأن ما شهده من حروب وكوارث ستظل تلاحقه بالحسرة والخذلان إلى آخر رمق في حياته.
والغريب أن هناك من يلوّح بأن هذه الأزمة ستنعكس على حياة الفقراء إيجابا في صورة انخفاض لأسعار السلع الغذائية ولا أدري كيف يفكر من يقول ذلك والأزمة ستخلف حتما فقدا للوظائف ونقصا في الإنتاج وخفضا للقيمة الشرائية لدى الناس كنتيجة طبيعية لانخفاض دخولهم فكيف سينتج عن ذلك انخفاض في تكاليف الحياة؟ إن من المتوقع أن يزداد عدد الفقراء والمعدمين عما هو عليه وتتحول شرائح من الأغنياء إلى متوسطي الحال، ومتوسطي الحال إلى فقراء، إما نتيجة لفقد الوظائف والدخول وإما نتيجة لفقد مدخراتهم في الأسواق المالية ولن نكون متشائمين لو قلنا إن ذلك سيزيد من حالات الانتحار واليأس والقنوط وثورات الجياع.
دعونا نعرج على نقطة مهمة، إذا كنتم لاحظتم فإن قرارات الرئيس بوش وحكومته وبياناته التي كان يرددها صباح مساء حتى انقلب خوف الناس هلعا من كثرة ظهوره على القنوات التلفزيونية، هذه الخطب والبيانات لم تتضمن إشارة ولو مرة واحدة إلى قيام الحكومة ببدء إجراءات بحث وتحقيق لتحديد أسباب الأزمة الحقيقية وتحديد المتسببين فيها ناهيك عن مجازاتهم. إن أمراً مثل هذا كان ينبغي أن يكون موضع الاهتمام الأول جنبا إلى جنب مع الشروع في محاولات الإنقاذ لكن هل ينبئ السكوت والتجاهل عن الخشية من أن يجر التحقيق إلى انكشاف ما لا يراد كشفه؟ أم أن فيما تناقلته الأخبار أخيرا عن تحرك مدع عام على مستوى إحدى الولايات ما يحرك المياه الآسنة؟
تساؤل آخر، يدور مع دوران رؤوس المكتوين بالأزمة، مفاده: أين دور المراجعين الداخليين والخارجيين على السواء في التنبه والتحذير عما كان يدور داخل المؤسسات المالية من التمادي في التلاعب بأصولها رغم أن مهمتهم الأولى هي حماية تلك الأصول والتأكد من أن لدى المؤسسات من أساليب الحماية وإجراءات السلامة ما يضمن على الدوام توافر عناصر الاطمئنان لكل من يتعامل مع هذه المؤسسات ناهيك عمن يملكونها من المساهمين إن مهمة المراجعين لا تقف عند حدود التسليم مما يرد في بيانات النتائج المالية التي تعد من قبل الشركات نفسها والاكتفاء بمهرها بأختامهم، بل إن مسؤوليتهم تمتد إلى حماية تلك الأصول من التلاعب والتآكل وإساءة الاستخدام وتقويمها ومعادلتها بما يقابلها في كل دورة مالية، إن ما حصل من شطط وإهمال يستدعي العودة إلى المعايير المحاسبية التي تقوم عليها مهمة المراجعين بهدف التأكد من الالتزام بها، ومراجعتها للتأكد من مدى حاجتها إلى التطوير وتوفير أقصى درجات السلامة والاطمئنان. والله من وراء القصد.

كاتب في الشأن العام

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي