النزاع في القوقاز: فرص وتحديات
فاجأت روسيا العالم الشهر الماضي بتنفيذ أكبر عملية عسكرية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ضد جارتها جورجيا، بعد أن قامت القوات العسكرية الجورجية بمهاجمة جمهورية أوسيتيا الجنوبية الانفصالية لاستعادتها إلى كنف السلطة المركزية. وتمكنت القوات الروسية من احتلال مناطق واسعة من جورجيا وهزيمتها عمليا، حيث أرغمتها على طلب وقف إطلاق النار. بعده قامت روسيا بالاعتراف باستقلال كل من أوسيتيا الجنوبية والإقليم الانفصالي الآخر أبخازيا الواقع على البحر الأسود.
ويأتي هذا الفعل الروسي بمثابة رسم خط أحمر على السفوح الجنوبية لجبال القوقاز أمام تمدد الحلف الأطلسي نحو دول ومناطق الاتحاد السوفياتي السابق التي كانت تدور في الفضاء الاستراتيجي الروسي قبل انهيار الاتحاد. كما أرادت أن تقترب من مسارات خطوط نقل النفط والغاز، من أنابيب وسكك حديد، من مصادره في منطقة بحر قزوين إلى الأسواق في أوروبا وبقية العالم. ويشار إلى أن هذه الخطوط تتجاوز الأراضي الروسية لتمر جميعها عبر جورجيا نحو مرافئ تركيا ومرافئ البحر الأسود. الأمر الذي يحرم روسيا من التأثير في مصادر الطاقة الذاهبة إلى أوروبا من القوقاز, التي تنافس صادراتها من الطاقة إلى أوروبا الغربية عبر الأراضي الأوكرانية.
ويشار في هذا السياق إلى أن الولايات المتحدة وبعض حلفائها في الغرب شجعوا ودعموا إنشاء خطوط الأنابيب التي تتجاوز الأراضي الروسية للحد من قدرة الأخيرة من الاستفادة منها في صراع النفوذ. خاصة أن روسيا لا تخفي استخدام قدراتها ومواردها الكبيرة من الطاقة لأغراض سياسية أو استراتيجية. لذا تأمل من عملها العسكري هذا أن تستعيد بعضا من نفوذها في منطقة بحر قزوين وفي دول أوروبا الشرقية التي، وإن ابتعدت سياسيا عن روسيا، فإنها ما زالت تعتمد على إمداداتها من الطاقة لسد قسط كبير من حاجاتها.
ومن أكثر العوامل التي تزعج روسيا تمدد حلف شمال الأطلسي إلى دول أوروبا الشرقية ومحاولته الجارية لضم كل من جورجيا وأوكرانيا إليه، وهما بمثابة بوابتين رئيسيتين لروسيا وشكلتا في الماضي جزءين أساسيين من الاتحاد السوفياتي السابق. وإن كان ذلك لا يكفي لإثارة غضب الروس، فقد أعلنت الولايات المتحدة أخيرا عزمها جعل بولندا مركزا لمنظومة الدفاع الصاروخي التي تقيمها في أوروبا على الرغم من معارضة روسيا ذلك, إذ لا تعدها مبررة, وبالتالي فإنها موجهة ضدها.
يذكر في هذا السياق، أن مبرر استمرار الحلف الأطلسي، من وجهة النظر الروسية، لم يعد قائما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. كذلك الحاجة إلى منظومة الدفاع الصاروخي التي تعد وليدة برنامج حرب النجوم الذي أطلقته إدارة الرئيس ريجان في منتصف الثمانينيات ملوحة بسباق تسلح لم يكن الاتحاد السوفياتي قادرا عليه آنذاك بسبب تراجع موارده المالية مع الانخفاض القياسي لأسعار النفط من جهة، وتورطه في حرب التحرير الأفغانية من جهة أخرى، الأمر الذي عجل بانهيار النظام الشيوعي. إلا أن الولايات المتحدة لم تلبث أن وجدت مبررا للإبقاء على الحلف الأطلسي والاستمرار في تطوير نظام الدفاع الصاروخي. كما تم التراجع عن النزع الكامل للأسلحة الاستراتيجية من العالم، وذلك في إطار تأكيد موقعها الجديد كأقوى دولة في العالم وقطبه الأوحد.
هذا ما لم يرق لروسيا، كما لم يكن في حسابات من توقعوا أن التحول، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، سيكون نحو نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يسوده الاستقرار السياسي في إطار التعاون والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. لكن روسيا كانت عاجزة عن اتخاذ أي إجراء عملي حيال ذلك في عهد الرئيس بوريس يلتسين في التسعينيات حين سادت الفوضى الاقتصادية وتراجعت قدرات روسيا الاقتصادية والعسكرية.
إلا أن عملية إعادة بناء القدرات الوطنية التي قامت بها إدارة الرئيس فلاديمير بوتين، أعادت الثقة إلى روسيا بقدراتها التي عززتها ارتفاع مواردها البترولية خلال السنوات الماضية. فكانت عمليتها الأخيرة في جورجيا وتدخلها في السياسة الداخلية لأوكرانيا، وتمايز مواقفها أخيرا حول عديد من القضايا القائمة حول العالم، ما هو إلا تعبير عن هذه الثقة المستعادة. هذا التعبير الذي ينسجم مع طموحها الإمبراطوري الذي طالما ميز سلوكها السياسي عبر التاريخ.
إن كانت الدوافع الروسية لا تستعصي على التحليل والفهم، فإن دوافع جورجيا ليست كذلك، بل يثير سلوكها تساؤلات عدة، خاصة أنها كانت المبادرة في هذا النزاع العسكري بمحاولتها فرض الطاعة على إقليم جنوب أوسيتيا بالقوة. والأرجح أن ردة الفعل الروسية لم تكن ضمن حساباتها. أو أنها أصغت لنصائح لم تكن غايتها حماية مصالح جورجيا الوطنية، بل تحقيق مآرب مبطنة نتيجة ارتفاع حالة عدم الاستقرار في المنطقة. وتحديدا رفع درجة مخاطر إمدادات النفط والغاز إلى أوروبا بشكل خاص والعالم بشكل عام.
إذ من غير المنطقي أن تتوقع جورجيا دعما ماديا مباشرا من أي من أصدقائها في الغرب لصد الهجوم الروسي عليها. فعلى الرغم من تراجع قدرة روسيا العسكرية وتقلص نفوذها نسبيا، فإنها لا تزال ثاني أكبر قوة نووية في العالم. من جهة أخرى، فإن انشغال الإدارة الأمريكية في نزاعين في كل من العراق وأفغانستان، واحتمال نشوب نزاع آخر مع إيران، يجعل من التعويل على تدخل مؤثر للولايات المتحدة ، أو حلفائها في الحلف الأطلسي احتمالا بعيدا جدا، حتى مع عدم الأخذ في الاعتبار أن الإدارة الأمريكية تشارف نهاية عهدها مع قرب الانتخابات الرئاسية.
كما أن الاتحاد الأوروبي غير قادر على تجاوز حدود معينة في دعمه للحكومة الجورجية، أو في رد فعله على التصرف الروسي حيالها. حيث إن أوروبا تعتمد إلى حد كبير في استهلاكها من الطاقة على ما تستورده من روسيا، وبالتالي لا يمكنها أن تعرض استمرار هذه الواردات للخطر. ويفسر هذا الوضع أيضا عدم موافقة الدول الأوروبية على فرض عقوبات تأديبية على روسيا بسبب تدخلها العسكري. ويقف هذا الاعتبار خلف التباعد بين الموقفين الأوروبي باستثناء تركيا، من جهة، والأمريكي من جهة أخرى. ذلك لأن أمريكا, وهي الشريك الأقوى النافذ في حلف شمال الأطلسي, لا تعتمد بقدر اعتماد أوروبا الغربية على النفط والغاز الروسي أو القوقازي. بينما تركيا، وهي بمثابة عضل الحلف الأطلسي في أوروبا، تستفيد من خطوط نقل الطاقة من منطقة القوقاز العابرة لجورجيا إلى أراضيها ومنها إلى العالم. بينما نجاح روسيا في التأثير في أمن تلك الخطوط، أو جعل الخطوط التي سيتم إنشاؤها في المستقبل تمر عبر أراضيها سيحرم تركيا من فوائد مادية واستراتيجية.
بغض النظر عن التداعيات السياسية والأمنية والاقتصادية لهذا النزاع التي قد تنشأ في الأشهر والسنوات المقبلة، فإن معظم المراقبين يتفقون على أنه قد ألحق الأذى بمستقبل موارد الطاقة لدول بحر قزوين. وفي حال سقوط إدارة الرئيس الجورجي ميخائيل سعاشكفيلي الموالية للغرب، ومجيء إدارة مؤيدة لروسيا، فإن جميع مسارات الطاقة من تلك المنطقة تصبح تحت السيطرة غير المباشرة لروسيا. لكنه بغض النظر عن طبيعة السيناريوهات الممكنة والمحتملة، فإن هناك نتيجة مهمة لا شك فيها، هو أن هذه التطورات ضاعفت من قلق أوروبا حول أمن إمداداتها من النفط والغاز الآتية من روسيا, وتلك الآتية من منطقة بحر قزوين.
يجدر الملاحظة أن روسيا، وعلى الرغم من بعض التلميحات أحيانا، لم يسبق لها أن استعملت صادراتها من النفط والغاز كأداة ضغط مباشرة على أوروبا. إلا أن هذه الحقيقة لن تشكل، بعد الأحداث الأخيرة، مصدر اطمئنان لأوروبا حول أمن وارداتها من الطاقة، وبالتالي لا بد لها من التعامل مع هذا الوضع الجديد. وقد يكمن خطأ روسيا في أنها قد تكون تخطت الحدود التي بعدها لا يمكنها أن تطمئن عملاءها الأوروبيين بأن صادراتها من الطاقة لن توظف للأغراض السياسية وللتنافس على النفوذ. وبالتالي تكون قد ألحقت الأذى الدائم بعلاقاتها الاقتصادية والتجارية المستقبلية مع أوروبا.
إن أمام أوروبا خيارين لا ثالث لهما إن شاءت تعزيز أمن الطاقة: الأول، هو زيادة درجة تنويع مصادرها من النفط والغاز لتقليل الاعتماد على وارداتها من روسيا ومن منطقة بحر قزوين. أما الثاني، فهو العمل على الاستغناء الكلي على المديين المتوسط والبعيد عن النفط والغاز الطبيعي.
بالنسبة للخيار الأول, فإن زيادة وارداتها من شمال إفريقيا هو ممكن ولكنه غير كاف بسبب محدودية موارد المنطقة. وتبقى منطقة الشرق الأوسط وتحديدا منطقة الخليج البديل الوحيد الذي يمكن أن يوفر لها أمن الإمدادات المطلوب خاصة من الغاز الطبيعي. كما يمكنها أن تستورد الطاقة الكهربائية من دول الخليج من خلال الشبكة العربية للكهرباء عبر تركيا إلى أوروبا الغربية، بعد تعزيز قدرة الشبكة. بينما تصدير الغاز يتطلب إنشاء خط أنابيب ينقل الغاز العربي عبر شبه الجزيرة إلى الأردن وسورية ثم تركيا. كما أنه يمكن لإيران، في حال تحسن علاقاتها مع الدول الغربية، أن تصدر الغاز إلى القارة الأوروبية عبر تركيا أيضا. ويلاحظ أن تركيا تبقى مستفيدة من هذا البديل الذي قد يعوضها ما يمكن أن تخسره جراء تردي الأوضاع في جنوب القوقاز ومنطقة بحر قزوين.
أما الخيار الثاني فيستند إلى تطوير البدائل الكاملة للنفط والغاز خاصة في قطاع النقل. ويشار إلى أن عديدا من الجهات في العالم، ولغايات مختلفة، تروج لمثل هذا المسار داخل أوروبا وخارجها. كما أن هناك مجموعات مؤثرة في الولايات المتحدة تدعم هذا الاتجاه، وقد نجحت جزئيا في إدخال هذا التوجه في البرامج الانتخابية لكلا الحزبين: الجمهوري والديمقراطي. وقد يكون الدافع الخفي لزيادة التوتر في منطقة القوقاز هو الدفع في هذا الاتجاه خدمة لمصالح بعض الجهات النافذة.
إن ما يجري في القوقاز حاليا وما قد يترتب عليه من تداعيات في المستقبل لا يمكن فصله عن منظومة المصالح الاستراتيجية لدول المنطقة، سواء بما تبرزه من تحديات أو ما توفره من فرص.
كاتب في شؤون التنمية