الأزمة المالية بين الإقراض والتوريق
يكمن السبب الجوهري للأزمة المالية الأخيرة التي لم تنته فصولها بعد في قيام مؤسسات وبنوك استثمارية أمريكية بتقديم قروض لأفراد لا يتمتعون بملاءة مالية حسنة لكن لديهم الاستعداد لدفع نسب فوائد عالية وتحمل رسوم إدارية مكلفة, في المقابل، قدم الزبائن مساكنهم على شكل رهون عقارية مقابل القروض الممنوحة. بدورها قامت المؤسسات المالية المقدمة للقروض بتوريق (إصدار سندات مقابل القروض العقارية) وبيعها على المستثمرين المحليين والدوليين لغرض مضاعفة العائد. كما قام بعض الجهات المالكة لهذه السندات برهنها لدى جهات أخرى من أجل الحصول على تسهيلات مصرفية, وهنا يكمن سر تورط عدة جهات عند حدوث المشكلة, ومن هنا عرفت الأزمة بأزمة الرهن العقاري.
ظهرت المشكلة للسطح للمرة الأولى في صيف عام 2007 بعد أن تبين عدم قدرة نسبة غير قليلة من المقترضين على تسديد الديون المرتبة عليهم (رأسمال زائدا خدمة الدين). وكرد فعل بادرت المؤسسات المالية المقدمة للقروض الأصلية ببيع الرهون العقارية التي في حوزتها لغرض استعادة كل أو جانب من أموالها. وأدت عمليات البيع إلى حدوث انخفاض في قيم العقارات نظرا لاستعداد المؤسسات لبيع العقارات بأقل من الأسعار السائدة في السوق لضمان سرعة إنهاء المعاملات. وتطلب الأمر طرد الملاك ممن تنطبق عليهم الشروط من منازلهم بقوة القانون مشكلا بذلك أزمة اجتماعية مهددة السلم الأهلي.
تورط الكبار
وأسهم انتشار أخبار الأزمة في مختلف وسائل الإعلام إلى حدوث عمليات بيع لأسهم بعض المؤسسات المالية المتورطة في أزمة الرهن العقاري ما أدى إلى تخفيض قيم أصولها. وعليه حدث تراجع في مجال آخر, أي أسواق المال, التي بدورها تعد مرآة لواقع وآفاق الاقتصاد.
وما زاد من عمق المعضلة تورط بعض المؤسسات المالية العملاقة في الأزمة وفي مقدمتها شركة ليمان براذرز, التي تعد بدورها رابع أكبر بنك استثماري عقاري في أمريكا فضلا عن شركتي فاني ماي وفريدي ماك اللتين كانتا تمتلكان نصف القروض العقارية في الولايات المتحدة حتى وقت قريب, إضافة إلى شركة آي جي إم أكبر شركة عاملة في مجال التأمين في الولايات المتحدة, التي بدورها تعد راعية قمصان فريق مانشستر يونايتد الإنجليزي.
خطة الإنقاذ
وافق مجلس النواب الأمريكي على خطة الإنقاذ بتكلفة مالية قدرها 700 مليار دولار بتاريخ 3 تشرين الأول (أكتوبر) بعد أن كان قد رفض الخطة الأصلية حيث تطلب الأمر تضمين بعض التعديلات على الخطة مثل تعزيز الضمانات التي تقدمها الجهات الفيدرالية للودائع من 100 ألف دولار إلى 250 ألف دولار للحساب الواحد. تركز الخطة على قيام الحكومة بشراء الأصول المتعثرة من المؤسسات المتضررة بقيمتها الأصلية حفاظا على أسعارها, وبالتالي المساهمة في وضع حد للأزمة. وعليه أصبحت الحكومة الفيدرالية هي من تمتلك وثائق الرهون العقارية. ومن المنتظر أن تعمل المؤسسات الاتحادية في الولايات المتحدة على إعادة جدولة الديون المترتبة على الأفراد غير القادرين على السداد لكن من وراء الستار. كما يشمل برنامج الإنقاذ عقد جلسات اجتماع في الكونجرس حول أسباب حصول كبار التنفيذيين في بعض المؤسسات المالية على رواتب وعطايا خيالية على الرغم من الأداء المخيب لمؤسساتهم.
اللافت في هذا الجانب ما ذكره رئيس ماليزيا السابق مهاتير محمد على مدونته بأنه تعرض لانتقادات لاذعة عندما اتخذ خطوات مشابهة لمعالجة الأزمة المالية التي عصفت بشرق آسيا ومنها ماليزيا في التسعينيات بدعوى عدم استخدام أموال عامة لحل مشكلات تورط تسببت فيها مؤسسات مالية. ويلاحظ هنا قيام الولايات المتحدة رائدة الفكر الرأسمالي بالتدخل الحكومي للحد من تداعيات الأزمة. ربما لم يكن أمام إدارة الرئيس جورج بوش من خيار سوى توظيف أموال دافعي الضرائب لإنقاذ الموقف خوفا من حدوث المزيد من التدهور, وبالتالي ارتفاع تكلفة المعالجة.
عندما تعطس أمريكا
صدق من قال إنه إذا عطست أمريكا فإن أوروبا تصاب بالزكام. بل ربما يكون من الصواب الزعم بأنه إذا عطست أمريكا فإن العدوى تنتقل للعالم بأسره. وربما يعود سر هذه الخاصية إلى قوة الاقتصاد الأمريكي فضلا عن أمور مثل سرعة انتشار الأخبار الصادرة من الولايات المتحدة. يبلغ حجم الناتج المحلي الأمريكي نحو 14 ألف مليار دولار مقابل أقل من خمسة آلاف مليار دولار حجم الاقتصاد الياباني, الذي يعد بدوره ثاني أكبر اقتصاد في العالم. تعد عمليات البيع والشراء في الولايات المتحدة الأسهل والأسرع في العالم بسب ضخامة حجم السوق واستعداد المؤسسات المالية لتقديم القروض ورغبة الناس في الاقتراض والعيش في بحبوحة.
قبل فترة سألت أحد المصرفيين عن سر إصرار المصرف الاستثماري الذي يعمل لديه بالاستثمار في السوق الأمريكية دون الأسواق الأخرى. وقال في رده إن السر يكمن في سهولة القيام بعملية الشراء والبيع في الاقتصاد الأمريكي, مؤكدا على عنصر القدرة على البيع بشكل يسير. وزاد محدثي أن هذه الميزة لا تنطبق بالضرورة على كل الأسواق بما في ذلك اليابان وأوروبا.