"أوبك" على صفيح ساخن: تخفيض الإنتاج بين السياسة والاقتصاد
تجتمع "أوبك" اليوم في فيينا لمناقشة أوضاع أسواق النفط العالمية وتقرير ما إذا كانت ستخفض الإنتاج أم لا. يأتي هذا الاجتماع في فترة حرجة اقتصاديا وسياسياً، ما يضع "أوبك" على صفيح ساخن. فعلى الصعيد الاقتصادي انخفضت أسعار النفط بأكثر من 40 دولاراً خلال الأسابيع الماضية. انخفاض الأسعار يعود إلى انخفاض الطلب الناتج عن ارتفاع الأسعار من جهة، وتباطأت اقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا واليابان من جهة أخرى. كما أنه يعود إلى زيادة الإنتاج في الفترة نفسها. في الوقت نفسه تحسن الدولار قليلاً، ولكن أسعار الفائدة مازالت منخفضة، ومازالت البورصات العالمية تئن من أزمة الرهن العقاري وإفلاس بعض البنوك الأمريكية والانخفاض الكبير في أسعار السلع الأولية، ما يعني أن توظيف الفوائض المالية الناتجة عن ارتفاع الأسعار سيكون صعباً للغاية. كل هذه الأمور تحدث في فترة أسهم فيها ارتفاع أسعار النفط في اكتشاف حقول نفطية ضخمة خارج دول "أوبك"، خاصة في البرازيل، كما أسهمت في نمو الطاقة البديلة، خاصة الرياح، وشجعت الشركات والحكومات على القيام باستثمارات ضخمة في الطاقة البديلة.
أما على الصعيد السياسي فإن العداء لدول النفط بشكل عام ودول "أوبك" بشكل خاص بلغ مستويات جديدة في الشهور الأخيرة على أثر تغيير الكونجرس الأمريكي قانون محاربة الاحتكار، بحيث يُمكّن الحكومة الأمريكية من مقاضاة "أوبك" على تخفيضها للإنتاج، وبسبب توتر العلاقات بين فنزويلا والولايات المتحدة، والعداء بين إيران والغرب، وبسبب الصراع بين روسيا وجورجيا حيث إن روسيا من أكبر مصدري النفط والغاز لأوروبا، وجورجيا معبر لخط أنابيب النفط ينقل نحو 800 ألف برميل إلى ميناء جيهان التركي، ومن ثم إلى أوروبا وغيرها. ولعل أهم موضوع على الصعيد السياسي هو الانتخابات الأمريكية لأن آخر ما تريده الدول المصدرة للنفط هو إدخال النفط في المعارك الانتحابية من جديد.
الخيارات المتاحة
هناك عديد من الخيارات أمام أوبك اليوم منها الاستمرار في الوضع الحالي، تأجيل أي تخفيض حتى الاجتماع القادم، الإعلان عن تخفيض ما بين 500 ألف برميل ومليون برميل يومياً ابتداء من الشهر القادم، الإعلان عن ضرورة الالتزام بالحصص الإنتاجية، الأمر الذي يقتضي تخفيض بعض الدول إنتاجها بأكثر من 500 ألف برميل يوميا. مهما يكن الخيار فإن قرار "أوبك" سيكون بالإجماع، وسيوازن بين العوامل السياسية والاقتصادية المذكورة أعلاه، لذلك سيكون قرارا صعبا، أيا كان. إلا أن هناك حقيقة تاريخية وهي أن تخفيض الإنتاج لا يعني بالضرورة ارتفاع أسعار النفط أو منعها من الانخفاض فقد تقوم "أوبك" بتخفيض الإنتاج، ومع ذلك يمكن أن تستمر أسعار النفط بالانخفاض. وقد يؤدي أيضاً إلى ارتفاع أسعار النفط بشكل كبير ومفاجئ كما حصل في شهري آذار (مارس) ونيسان (أبريل) الماضيين.
البيانات
تشير البيانات التي نشرتها أوبك في تقريرها في الشهر الماضي إلى أن خبراءها يتوقعون أن الحفاظ على أسعار النفط يتطلب منها تخفيض الإنتاج بمقدار 100 ألف برميل يوميا في العام الحالي و700 ألف برميل يومياً في العام القادم. هذه التوقعات جاءت نتيجة توقع زيادة صغيرة في الطلب العالمي على النفط تقدر بمليون بريمل يوميا في العام الحالي و900 ألف برميل يوميا في العام القادم، وزيادة إنتاج دول خارج أوبك بمقدار 580 ألف برميل في العام الحالي و900 ألف برميل يوميا في العام القادم.
وبالنظر إلى بيانات الإنتاج نجد أن هناك ما يشجع "أوبك" على تخفيض الإنتاج، حتى وإن كان بطريقة غير رسمية. بناء على العوامل السياسية والاقتصادية والفنية نجد أن كل دول أوبك تنتج بكامل طاقتها الإنتاجية تقريباً، وأن إنتاج الشهر الماضي كان أعلى مما كان عليه الإنتاج في الشهر نفسه من العام الماضي بمقدار 2.18 مليون برميل يومياً، وأن دول "أوبك" تنتج أعلى من سقف الإنتاج المتفق عليه بمقدار مليون برميل يومياً. ولكن تفاصيل الزيادة فوق سقف الإنتاج مهمة جداً لأنها ستكون محور الخلاف حول أي تغيير في الإنتاج في هذا الاجتماع فهناك دول تنتج أقل من حصتها المقررة، بينما تقوم دول أخرى بالتعويض عن هذا النقص وزيادة. لهذا سنرى أن الدول التي تنتج بأقل من حصتها أو قريبا من حصتها تطالب بتخفيض الإنتاج، أو الالتزام بالحصص، لأن هذا التخفيض سيأتي في النهاية من الدول التي زادت إنتاجها بشكل كبير في الشهور الأخيرة.
أما بالنسبة للطلب فإن هناك عوامل تشجع "أوبك" أيضاً على تخفيض الإنتاج: انخفاض الطلب الأمريكي على النفط بمقدار 3.5 في المائة مقارنة بالطلب في العام الماضي، وانخفاض الطلب الصيني بعد انتهاء الألعاب الأولمبية وتباطؤ نسبي في الاقتصاد الصيني، وبدء أعمال الصيانة في المصافي في بقاع شتى من العالم. إضافة إلى ذلك فإن أسعار النفط المستقبلية أعلى من الفورية، الأمر الذي يشجع على تخزين النفط، وبالتالي ارتفاع مستويات المخزون في الدول المستهلكة، وانخفاض الأسعار.
إضافة إلى ذلك فإن التخفيض سيمكّن بعض دول "أوبك" من بناء طاقة إنتاجية إضافية، والتي يمكن استخدامها في حالة الطوارئ الناتجة عن الأعاصير في خليج المكسيك أو الأحداث السياسية في إحدى الدول المنتجة، خاصة نيجيريا، أو الدول الناقلة، مثل جورجيا.
تخفيض، ولكن؟
بيانات "أوبك" تشير إلى أنه عليها أن تخفض الإنتاج الآن أو لاحقاً إذا أرادت الحفاظ على أسعار النفط بحدود 100 دولار للبرميل، بغض النظر عن طريقة التخفيض. إلا أن الواقع يشير إلى أن عبء التخفيض يقع على دول معينة ليس من صالحها على المدى الطويل تخفيض الإنتاج كي تضمن استمرار الطلب على احتياطياتها النفطية الهائلة، كما أنه ليس من مصلحتها على الصعيد السياسي أن تخفض الإنتاج مباشرة قبل الانتخابات الأمريكية حتى لا يكون النفط الكرة التي يلعب بها الساسة الأمريكيون. لذلك فإن على هذه الدول أن توازن بين الضغوط الاقتصادية الداخلية على المدى الطويل وعلاقاتها السياسية من جهة، والضغوط من بعض دول "أوبك" من جهة أخرى، ما يؤكد أن أوبك على صفيح ساخن. ولكن الدرس الذي يجب أن يعيه الجميع هو أن كل حالات الكساد الاقتصادي في الولايات المتحدة وبعض الدول الصناعية في العقود الأخيرة سبقها ارتفاع كبير في أسعار النفط، ونتج عن ذلك انخفاض في الطلب، ثم انهيار في أسعار النفط. هذا يعني أنه قد يكون في مصحلة الجميع أن تستمر الأمور كما هي عليه الآن حتى بداية العام الجديد.