الأمية الاقتصادية

الأمية الاقتصادية

في العادة تتأثر حياة الإنسان ويتحدد مستوى معيشته بمقدار ما يمتلكه من مهارات تعينه على تسيير شؤون حياته. ففي الماضي وعندما كان الإنسان يعتمد وبشكل رئيس على قواه البدنية في كسب قوته وتدبير أموره والدفاع عن نفسه, فإن الاهتمام كان منصبا على المهارات البدنية, ومع تطور الإنسان معرفيا أصبح لمهارة الكتابة والقراءة دور كبير في تشكيل حياة الإنسان والمجتمع. ومن ذلك الوقت ارتبط مفهوم الأمية بعدم قدرة الإنسان على القراءة والكتابة, فالأمي هو ذلك الإنسان الذي لا يستطيع أن يقرأ ولا يتمكن أن يكتب. ومع تطور وسائل التعلم والدراسة تراجعت أمية القراءة والكتابة عند الكثير من المجتمعات, وبالأخص في الدول المتقدمة والمتطورة صناعيا ومعرفيا, إلا أن تطور الحياة فرض على الإنسان أن يطور من مهاراته وأن يتعلم مهارات جديدة تتطلبها الحياة بشكلها المتطور والحديث, فزمن المعلومات والإنترنت وعصر مجتمع المعرفة زاد من أهمية المهارات الفكرية على حساب المهارات البدنية, فهناك اليوم اهتمام كبير بالأمية المعلوماتية وأمية الكمبيوتر واستخدام التقنيات الحديثة في الاتصال والتواصل مع الآخرين. فالطالب بدأ يتعلم مهارات استخدام الكمبيوتر مع تعلمه نطق الحروف وكتابتها.
ومع ازدياد أهمية الاقتصاد في حياتنا وما يلعبه من دور حيوي في تحديد خياراتنا وطرق حياتنا وشكل العلاقة مع بعضنا فإنه أصبح من الضروري للإنسان أن ينمي مهاراته في هذا المجال حتى لا يتأثر سلبا بفعل ما يتخذه من قرارات اقتصادية لها علاقة بعمله وادخاراته واستثماراته وفهمه لما يدور حوله من أمور وقوى قد تمس بعض جوانب حياته حاضرا أو مستقبلا. فالأمية الاقتصادية هي في نظر الكثير من الاقتصاديين شكل من أشكال الإعاقة الفكرية, وهي ربما تحرم الفرد والمجتمع من إمكانية تطوير نفسه وتنمية موارده والاستفادة من الظروف الإيجابية المحيطة به. فالنشاط الاقتصادي كما هو الحال في النشاطات الأخرى, له أسراره وخفاياه وقوانينه الظاهرة والمخفية, فهناك أياد خفية كما يقول آدم سميث, تحرك النشاط الاقتصادي وتلعب دورا في تحديد وجهته, ومن الضروري للإنسان أن يمتلك المهارات الاقتصادية اللازمة لفهم هذه الأشياء وإلا فإن أميته وجهله بها يجعله مستسلما لها وغير قادر على التأثير فيها.
ومجتمعنا ومعه مجتمعات أخرى كثيرة ومنها مجتمعات متقدمة يعاني مشكلة الأمية الاقتصادية وما تتسبب فيه من اضطراب لمسيرة التنمية الاقتصادية عندنا. فصحيح أننا مررنا بطفرة اقتصادية كبيرة وتطورنا تعليميا إلا أن هذا لا يكفي في نظر الخبراء وعلماء الاقتصاد بأن لا تكون عندنا أمية اقتصادية. ففي السنوات الماضية كان هناك الكثير من الحوادث والظواهر التي تركت آثارا سلبية في حياة الناس والمجتمع والتي لا يمكن أن يفسر حدوثها وتكرارها وبشكل متقارب من دون الإشارة إلى جهل الناس وعدم معرفتهم واستيعابهم القوى والعوامل المحركة للكثير من النشاطات الاقتصادية. فظاهرة الاستثمار في الأسهم وصعود أسعار الأسهم إلى مستويات خرافية ومن ثم انهيارها بهذا الحجم وبهذه السرعة والحدة لا يمكن أن نفهمها إلا على أنها كانت ظاهرة بدأت وتنامت عند المجتمع وهو لا يعرف طبيعة هذا النوع من الاستثمار ويجهل متطلباته ولا يعي مخاطره. وكانت النتيجة قاسية ومؤلمة للكثير من شرائح المجتمع وتركت آثارا اقتصادية واجتماعية في حاجة إلى وقت طويل جدا لمحو آثارها ونسيان مرارتها. ولم يقتصر الأمر على الأسهم, فإقبال الناس على المساهمة في شركات وعدتهم بأرباح خيالية وفي أوقات قصيرة جدا هي الأخرى ظاهرة سببها جهل الناس وعدم معرفتهم بالأمور الاقتصادية, فإعطاء الناس ثقتهم لشركات لمجرد أنها أغرتهم بعوائد كبيرة ومن دون التحقق من مصداقية عمل هذه الشركات ولا التأكد من واقعية أرقام عوائدها واستثماراتها هو في الحقيقة يعكس خطورة الآثار المترتبة على الأمية والجهل بالمواضيع الاقتصادية والاستثمارية.
واليوم يتصدر التضخم وغلاء الأسعار قائمة اهتمامات الناس لما تركاه من آثار سلبية في حياتهم, ولكن هناك عدم معرفة بما يعنيه التضخم وما آثاره في الأسعار وتكلفة الإنتاج وحركة البضائع والخدمات, فنجد البعض يصب غضبه على التجار ورجال الأعمال ويتهمهم, وآخرون يرون أن حل المسألة يتطلب حلولا مستعجلة حتى ولو كانت لها آثار سلبية على المدى الطويل. فهناك القليل ممن يحيط بأسباب التضخم والعوامل الداخلية والخارجية التي ترتفع بالأسعار, والقليل من يدرك خطورة التضخم إن لم تتم معالجته على أسس اقتصادية وضمن حزمة من الحلول المتكاملة. فالتضخم هو مشكلة حقيقية وكلنا اليوم نعانيها ولكنها مشكلة اقتصادية ولن تتم السيطرة عليها إلا بمعالجات اقتصادية عقلانية. وكلما تفهمنا أكثر الأمور والجوانب الاقتصادية المحيطة بمسألة التضخم فإننا نكون أكثر قدرة على التخفيف من آثاره والاستفادة من دروسه. فجزء كبير من التضخم الذي نعانيه في الوقت الحاضر هو تضخم مستورد, وهذا يكشف لنا عن خلل في الكثير من أنشطتنا الاقتصادية, وكذلك فإن أزمة التضخم كشفت لنا الحاجة إلى وجود آليات ومؤسسات حكومية أو غير حكومية لمراقبة السوق وضبط نشاطاتها بالكفاءة التي يتطلبها تسارع الأزمة واتساع آثارها الاجتماعية.
فالمعرفة بالحد الأدنى في الأمور الاقتصادية باتت من المعارف الأساسية ولا بد لنا من أن نهتم بها وأن نخصص لها من جهودنا وخططنا ما يعززها في نظامنا التعليمي وإنتاجنا الإعلامي والثقافي, فمن غير المقبول أن يتخرج أبناؤنا في الجامعات وحتى الثانويات وليس عندهم المعارف الاقتصادية الأساسية والإلمام بالأمور المالية والاستثمارية, وكلما ازدادت المعرفة الاقتصادية لدى المواطن وازداد وعيه بالقوى المحركة للنشاط الاقتصادي كان ذلك في صالح المواطن ولصالح اقتصادنا المحلي حاضرا ومستقبلا.

الأكثر قراءة