ثقافة الانقلابات مرة أخرى
بالانقلاب الأخير في موريتانيا يعود العالم العربي لثقافة الانقلاب مرة أخرى. ظننا أننا تجاوزنا هذه المرحلة المظلمة من تاريخنا، ولكن هانحن نعود من جديد. ويعود الانقلاب مجدداً ليهدد مؤسسات المجتمع المدني، ويقدم الحلول الفردية التي غالباً ما تكون أسوأ مما سبقها، وترمي بظلالها على أداء المؤسسة السياسية. وليس أسوأ من الانقلاب على نظام سياسي مستقر نسبياً، أو نظام وصل بالانتخاب. فيصبح الانقلاب رفضاً للإرادة الشعبية، واستدراكاً على التطور الطبيعي للنسق الاجتماعي والسياسي في البلاد.
في العالم اليوم يوجد 11 نظاماً قائماً وصل قادته بالانقلاب ومازالوا في السلطة، وهذه الأنظمة في ليبيا 1969، غينيا الاستوائية 1979، غينيا 1984، بوركينا فاسو 1987، تونس 1987، بورما 1988، السودان 1989، غامبيا 1994، قطر 1995، وإفريقيا الوسطى 2003، وفيجي 2006. ونضيف إليها أخيرا النظام الـ 12: موريتانيا 2008، وخرجت منه باكستان بعد استقالة برويز مشرف أخيرا. وتظهر أربع دول عربية في هذه القائمة. وبطبيعة الحال فإن لكل نظام وصل بالانقلاب تبريراته وتفسيراته للأمور و"الحاجة" لما قاموا به. ولكن الملاحظ أنها جميعها تمت في دول تنتمي للعالم الثالث. وباستثناء الشقيقة قطر فإنها جميعها دول ترزح تحت مشكلات الفقر وفقدان العدالة الاجتماعية.
التطور السياسي والاجتماعي أمر حتمي وكل حكومة أو مجتمع لا يتماشى معه مصيره إلى الزوال. ولكن التغيير له أشكال عديدة تختلف حدتها وتسارعها حسب طبيعة كل شعب ونظام. التطوير التدريجي المدروس هو البديل العقلاني لنقل الدول إلى مراحل تاريخية جديدة مع الحفاظ على مؤسساتها، وإيمان الجماهير بقدرتها على التأقلم مع كل مرحلة ومتطلباتها.
لم تشهد الدول الغربية انقلابات منذ فترة طويلة، ولكن هذا لا يعني أن أنظمتها السياسية والاجتماعية لم تتغير، بل إنها في حالة تغيير وتجديد مستديمة شأنها شأن كل الأنظمة البشرية. ولا أدل على ذلك من التعديلات الدستورية والاستفتاءات الشعبية التي تجرى بين الحين والآخر. حين يأتي التغيير من الداخل، فإنه أحرى بالقبول والاستدامة، وأقدر على مجاراة ثقافة الشعب والتماشي معها وتطويرها مع الوقت.
لدينا في المملكة نظام سياسي مستقر اعتمد على الإرادة الشعبية ليستقي هذا الاستقرار والشرعية. ومن هذا الاستقرار تنبع مشاريع التطوير والإصلاح التي يعلن عنها القادة في وقتها تماشياً مع الرغبة الشعبية والوقت الملائم، وبمراحل مدروسة لا ترمي بالبلاد في مغامرات طائشة قد تؤدي لأضرار جسيمة. ومهما بلغت الرغبة لدى البعض برؤية التطوير السريع فإن هذه الرغبة يجب مقاومتها ووضعها ضمن آلية سليمة تدريجية تحمي أبناء هذا البلد ومؤسساته من التغييرات السريعة المفاجئة. بل إن ولادة هذا النظام السياسي نفسه لم تأت على هيئة انقلاب على حكومة قائمة بالفعل، بل تحقيقاً لإرادة شعبية في توحيد هذه البلاد واستقرارها باستخدام قوى دينية وثقافية واجتماعية داخلية للتطوير والإصلاح. وجاء توحيد المملكة ليمثل هذا الإصلاح والتطوير دون كسر لثقافة البلاد، أو إدخال عوامل إصلاح أجنبية عليها.
الأنظمة السياسية والاجتماعية تطورية بطبيعتها، ولكن كسر هذا التطور الطبيعي وإدخال تغيير قادم من خارجه يسبب أضراراً أكثر بكثير من الوضع قبله لأنه يدخل حلولاً خارجية لا تتماشى وطبيعة هذا النظام. ومن هنا كانت المشاريع الاستعمارية مضرة على المدى الطويل رغم المشاريع التطويرية والتحسينات التي أدخلوها على البلاد المستعمرة. فكل مشاريع إصلاحية مصيرها إلى الصراع مع النظام الاجتماعي القائم ما لم تكن قادمة من رحم الثقافة لتتماشى مع جزيئياتها الثقافية وحتمياتها التاريخية.
دعواتنا لإخواننا في موريتانيا بمزيد من الاستقرار وبمستقبل مشرق يودع الحقب الانقلابية.