حوار الأديان بين الضرورة والمراوغات لكسب الوقت

[email protected]

كتب أفلاطون محاوراته الرائعة في القرن الرابع قبل الميلاد، واعتمد فيها على أسلوب المحاورة والنقاش العقلاني للوصول لاستنتاجاته المنطقية والفلسفية التي صبغت الحضارة الغربية بكاملها. وكانت الشخصيات تتناقش في المحاورات لكشف كنه الأشياء والمفاهيم وطبيعتها والوصول للحقائق، ومعرفة وجهات النظر وربطها بالمنطق العام، مما يولد عالماً منطقياً سليماً يصل فيه المتحاورون إلى نتيجة مقبولة يحكمها المنطق والعقل.
واليوم لا نكاد نطالع صحيفة أو مجلة إلا ونقرأ عن الحوار، وأهميته، وكأن نهاية القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين اكتسبت هذا المفهوم الثقافي مجددا ليكون صبغة لها في مواجهة الاختلافات الداخلية والخارجية. وليس هذا حكراً على العالمين العربي والإسلامي، بل ينتشر الحوار كمفهوم ثقافي في الثقافات العالمية كافة أخيرا. وبذلك يكتسب مؤتمر الحوار بين الأديان، الذي يختتم اليوم فعالياته، بعداً عالميا، ليس لتعدد جنسيات المشاركين فيه، الذين يمثلون عدة أديان وثقافات وحضارات عالمية، بل لكونه يساهم في خلق بيئة ثقافية جديدة تتيح للأديان التعايش السلمي ويعيد للسطح مفاهيم النقاش والتفهم بعيدا عن التعصب الأعمى. ولا يفضي هذا بالضرورة لاعتراف كل منها بصحة الآخر، أو سلامة منهجيته، وإنما الاعتراف بحق الاختلاف، والتركيز على النقاط المشتركة، وعدم تضخيم مسائل الخلاف. ويتميز هذا النوع من الحوار بأنه لا يرمي بالضرورة للوصول لاتفاق على الموضوعات المتنازع عليها وإنما لتبادل وجهات النظر والوصول لتفهم مشترك، مما يؤدي لتعايش سلمي بين الأطراف المختلفة.
ولكن هل من ضرورة حقيقية للحوار؟ ولماذا اكتسب هذه الأهمية والزخم الإعلامي أخيرا؟ وإلى أي مدى يمكن أن يكون الحوار وسيلة ثقافية لتجاوز الخلافات؟ وهل بالإمكان تجاوز الخلافات التي تفضي إلى مفاهيم مختلفة حول الحياة، ووظيفة الإنسان فيها، والموت، وما بعد الموت؟ وهل بالإمكان ــ ولو على المستوى النظري ــ الوصول إلى نقاط اتفاق بين ثقافتين أو دينين أو حضارتين تنتهجان سبيلين مختلفين في التعامل مع القضايا الأساسية، بما في ذلك الحوار وآلياته؟
من الحاسم ابتداءً معرفة مفهوم الحوار فهو ليس تكرير عبارات جوفاء تفيد الاستعلاء الثقافي وتهميش كل ما يختلف عنك ثقافياً، ودينياً، وعرقياً، الذي يرمز له بـ (الآخر). فهذا الآخر يقبع خارج الدائرة الثقافية التي يرمز لها بـ (الذات). وكل ثقافة ودين وحضارة مارست نوعاً من الإقصاء والتهميش لكل من اختلف عنها، وقد يكون من المستحيل نظرياً إلغاء الدائرة كلياً حيث ترتكز على هذه الدائرة أغلب تعريفات الذات. ولكن الاعتراف بتعدد الرؤى، والبحث عن أراض مشتركة وتهميش الاختلاف ونقاط التعارض هي الخطوة الأولى لثقافة جديدة ترمي لما وراء المواجهة. ولكن هذا لا يلغي مبدأ المقاومة، غير أن المقاومة هنا تأخذ شكلاً لا عنفياً يبرز الذات بتميزها عن غيرها دون أن يفضي ذلك بالضرورة إلى تهميش أو إقصاء أو ازدراء ما هو خارج الذات.
يصبح الحوار مضيعة للوقت حين يكون عبارات جوفاء ترددها جماعات تريد شراء مزيد من الوقت لإضافته لعمرها المنتهي ثقافياً. جماعات تريد استخدام عبارات القرن الجديد لتمرير أفكار عدوانية تنتمي لعصور المواجهة الدموية. ويكون الحوار هنا ذا طريق واحد ويشبه مسرحية هزلية يأتي فيها المتحاورون إلى طاولة الحوار مقتنعين بصحة كل ما لديهم اقتناعاً مطلقاً، وببطلان ما لدى الآخر بطلاناً مطلقاً.
لأعود للأسئلة النظرية السابقة، من المستحيل نظرياً أن توجد ثقافتان أو دينان يختلفان في كل شيء، بل يتفق أغلب الثقافات والأديان والحضارات في المعاني الإنسانية الرئيسية، وبناءً عليه فإن أي مبالغة في الاختلاف أو الإقصاء تعود لتفسيرات خاطئة لمبادئ الثقافة أو الحضارة أو الدين. بل أكاد أزعم أن نقاط الاتفاق أكثر بكثير من نقاط الاختلاف بين أغلب ثقافات بني البشر، لتشابه الطبيعة الإنسانية والظروف المحيطة بها.
سرني كثيراً مؤتمر حوار الأديان لأنه تجاوز مرحلة التنظير حول أهمية الحوار، أو جدواه، ليضع كل هذه الأطروحات على طاولة تبادل الأفكار ويلقي بمسؤولية التعايش السلمي بين الأديان على عواتق علماء أخذوا على كواهلهم مهمة المواجهة السلمية، ليدخل خطاب الحوار في مرحلة تاريخية جديدة أبرز معالمها أن الحوار لا يعني بالضرورة الاتفاق، والتقارب لا يفضي بالضرورة للتوحيد أو التهميش، والتعايش لا يعني إلغاء الاعتزاز بالذات، وإنما تأخذ كل هذه المفاهيم أبعاداً جديدة تفضي لولادة جيل جديد يبذل ما يستطيع لخدمة البشرية إيماناً منه بأن ذلك من أفضل القربات، ويدافع عن حق الآخر في التعبير عن رأيه حتى وإن كان يختلف معه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي