اليهود وروسيا: الجذور التاريخية
drashwan59@yahoo .com
قبل أيام قليلة كشفت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية عن أن مجلس وزراء الدولة العبرية خصص جلسة كاملة لمناقشة قضية هجرة اليهود الروس إليها وما طرأ عليها من تطورات خطيرة خلال الأعوام الأخيرة. وأشارت الصحيفة إلى أن مجلس الوزراء الإسرائيلي استعرض الانخفاض الحاد في هجرة اليهود الروس إلى إسرائيل بحيث وصل عددهم في عام 2007 إلى ستة آلاف فقط بانخفاض قدره نحو 80 في المائة من عددهم في العام السابق عليه. وكان العدد الكلي لهؤلاء اليهود الروس إلى إسرائيل قد وصل إلى نحو مليون شخص منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991 وحتى عام 2007، بمعدل هجرة وصل في بعض السنوات إلى ما يقارب مائتي ألف يهودي روسي. إلا أن المعلومات التي ناقشها مجلس الوزراء الإسرائيلي أكدت أن أكثر من مائة ألف من هؤلاء قد نزحوا من إسرائيل لدول أخرى وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية فضلاً عن مائة ألف آخرين عادوا إلى روسيا ليستقروا فيها كمواطنين روس بعد حصولهم على الجنسية الإسرائيلية. بهذه الأرقام بدا واضحاً مدى الخطورة التي تواجهها الدولة العبرية بتوقف "أنبوب" المد البشري، الذي كانت توفره لها الجالية اليهودية في روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وبخاصة في ظل تراجع معدلات الزيادة السكانية الطبيعية لليهود الإسرائيليين وتزايدها بوضوح لدى الفلسطينيين سواء حاملي الجنسية الإسرائيلية أو سكان الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ويفتح هذا الموضوع الباب أمام مناقشة أكثر عمقاً لحقيقة الوجود اليهودي في روسيا تاريخياً والأدوار التي لعبها اليهود في المراحل الرئيسية لهذا البلد حتى الثورة الشيوعية عام 1917 ثم تأسيس الاتحاد السوفيتي بعدها حتى انهياره عام 1991. ويبدأ الاختلاف بتحديد توقيت وملابسات بدايات الوجود اليهودي في الأراضي الروسية، فالمؤرخون اليهود يرجعونها إلى الشتات اليهودي الأول وتدمير هيكل سليمان بالقدس على أيدي الآشوريين بقيادة نبوخذ نصر للمرة الأولى. ويتداول هؤلاء المؤرخون عدة نظريات تؤكد تلك البدايات، وتختلف فقط حول مسار الهجرة اليهودية إلى الأراضي الروسية، فالبعض يرى أن اليهود قد وصلوا إلى المدن الواقعة على البحر الأسود كأسرى حرب ثم انتقلوا من هناك إلى روسيا، حيث استقروا في المنطقة الواقعة بين ذلك البحر وبحر قزوين، في حين ترى نظريات أخرى أن الجماعات اليهودية التي خرجت بعد الشتات الأول وانتشرت في المدن اليونانية بآسيا الصغرى، قد انتقل بعضها فيما بعد إلى الشواطئ الشمالية للبحر الأسود حيث استقرت هناك. وعلى الرغم من عدم وجود آثار أركيولوجية أو وثائق تاريخية تثبت صحة معظم تلك النظريات، وهو ما يعترف به بعض المؤرخين اليهود ذاتهم، فإن أغلب هؤلاء المؤرخين يعتمدون على الأساطير والروايات الشعبية المتداولة، سواء بين اليهود، أو بين سكان تلك المناطق الأصليين، باعتبارها أدلة كافية على صحة هذه النظريات.
وكما يبدو واضحا، فإن هذه النظريات تحاول تأكيد الارتباط بين تاريخ وجود اليهود في روسيا ومراحل التاريخ اليهودي العام، كما تتبناه المدارس اليهودية الصهيونية التي تؤسسه على مقولة الاضطهاد الذي تعرض له اليهود على أيدي "الأغيار" وما ترتب عليه شتاتهم الإجباري في أصقاع الأرض ومنها الأراضي الروسية. ويحاول بعض المؤرخين الأكثر حيادا تقديم تفسيرات أقرب للمعقولية لشتات اليهود ووصولهم إلى الأراضي الروسية، ووفقا لهم فإن الشتات اليهودي لم يبدأ مطلقا مع سقوط القدس، حيث إن الغالبية العظمى من اليهود كانت قد تفرقت في أنحاء العالم قبل ذلك الحدث بعدة قرون. وهم يضعون ذلك الشتات، الذي يفضلون تسميته بالهجرة، ضمن الحركة العامة للهجرات البشرية الكبيرة التي شهدها العالم في خلال تلك الفترة. ويؤكد بعض هؤلاء المؤرخين أن الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة هي التي تكمن وراء هذه الهجرة، في حين يرى البعض الآخر أن الخصائص الجغرافية لفلسطين هي التي تفسر في وقت واحد الهجرة اليهودية وطبيعتها التجارية فحيث إن بلدان شرق البحر المتوسط والجزيرة العربية كانت مركزاً تجارياً مهماً لعدة مئات من السنين قبل الميلاد، فقد كان من الطبيعي أن تتشكل جاليات تجارية ومنها اليهودية في كل مدن وموانئ أوروبا، ومن الطبيعي أن يحمل هؤلاء التجار معهم لغتهم وديانتهم وتقاليدهم، وهو ما ينصرف إلى موانئ وشواطئ البحر الأسود وبحر قزوين الواقعة في الأراضي الروسية، والتي استقرت بها بعض الجماعات اليهودية التجارية.
منذ هذه البدايات المثيرة للجدل وحتى اليوم، مر التاريخ اليهودي في روسيا بمراحل مختلفة، كان تأريخها شبه مقصور على الكتابات اليهودية، إلا أن الحقيقة الوحيدة المستمرة التي يجمع عليها المؤرخين كافة هي ذات وجهين متناقضين ومتكاملين في الوقت نفسه: الأول هو ولادة واستمرار وجود مشاعر عداء عميقة لليهود في المجتمع الروسي المسيحي أصبحت تسمى فيما بعد "معاداة السامية"، والآخر هو استمرار اليهود في لعب أدوار مركزية في المجتمع والدولة الروسيين سواء كانت مالية واقتصادية أو سياسية بالرغم من قلة عددهم للسكان الروس المسيحيين. وقد ظلت تلك الحقيقة ذات الوجهين قائمة حتى اليوم، بالرغم من تراجع أحد الوجهين أو كليهما من فترة إلى أخرى بحسب الأحوال في المجتمع الروسي.