الكليشيهات: حين نكون عبيدا للغة

[email protected]

لا أعرف سبب تعلقنا الشديد بالكليشيهات. والكليشة هي التركيب المتكرر للتعبير عن غرض معين، مثل عبارة (وليس كل ما يعرف يقال) أو (وهكذا دواليك) أو (ما لا يدرك جله لا يترك كله)، وغير ذلك من آلاف العبارات المحفوظة، التي ينمق بها سياق الكلام، حتى أصبحت مثل الكليشة التي في المطابع (قبل عصر الحاسب)، وتصف بها العبارات التي تتكرر في الكتاب بحيث لا يحتاج عامل المطبعة لصفها كل مرة، وتحتوي عادة على البسملة، أو الصلاة على النبي، أو عبارات أخرى يتكرر ورودها.
أصبحت أغلب تعبيراتنا كليشيهات مصفوفة، محفوظة، منقولة. يبدو لي أن أحد أسباب ذلك هو رهاب التشكيك والتخوف من التغيير والتجديد المتجذر في ثقافتنا. فالصحيح ما تردد على الألسن، وأثر عن الأولين. وكلما غاص في أعماق التاريخ كان ذلك أدعى لصحة المقولة وسلامتها. وهذا في العربية أهم إثبات لسلامة التركيب اللغوي، حين ينقل عن جيل القرن الأول.
استعرض كتابات الطلاب ستجد أن أغلبها عبارات متكررة ممجوجة من كثرة تكرارها. هل نحن ثقافة حين تفكر تستذكر؟ وحين التجديد تستعيد؟ بل تجد ذلك على مستوى الكتاب والمفكرين. ولا فرق في ذلك بين الكتابة الإبداعية وغير الإبداعية. بل أزعم أن الكتابة الإبداعية تكاد تخلو من تركيب إبداعي واحد، بل كلها عبارات سمعت من قبل، ورددت، حتى صار هدف الكاتب (والمفكر) نقل الفكرة التي لديه بأكثر العبارات والتراكيب ترديدا بحيث تصبح كل عباراته مألوفة. استمعوا إن شئتم لمسلسل أو فيلم أو اقرأوا رواية وحاولوا أن تجدوا تركيبا أو جملة جديدة. حاولوا أن تجدوا تعبيرا جديدا لشعور مألوف. بل إننا حين نترجم رواية أو فيلما أجنبيا يحتوي على درجة رفيعة من الإبداع اللغوي، تجدنا نعيده إلى رحاب المألوف ليقبع بعد الترجمة تحت أصفاد الكليشيهات. وكأن اللغة عامل تكبيل لدينا، تعوقنا عن استشعار ما وراء المألوف.
حين يتحدث الخطيب، تصبح جميع عباراته (بلا استثناء يذكر) كليشيهات سبق ترديدها مئات المرات، فلا تأثير (أو حاجة) للخطيب عندها. فكل خطيب يخبرك بما تعرفه، بعبارات تعرفها وتكررت على وعيك ولا وعيك مرات كثيرة.
على المستوى المهني، نحن أيضا أسارى الكليشيهات. فمثلا من منا يستمتع بمتابعة النشرة الجوية في القناة السعودية الأولى؟ السبب واضح: تكرار عبارات ممل، قاد إلى فقدان الصلة بين المذيع والمتلقي. قد نتابع النشرات الجوية في القنوات الأخرى لحداثة التعبيرات، ولكن أصبحت عبارات مثل (توقعاتنا للأربع والعشرين ساعة القادمة بمشيئة الله تعالى صحو غائم إلى غائم جزئي مع تدني مدى الرؤية الأفقية)، تقع على آذاننا دون أن تصل إلى إدراكنا، نظرا لتكرارها، لأن هدف كاتب هذا التقرير هو تعبئة فراغات في نموذج الأرصاد الجوية، بأقل جهد ممكن، في حين أنه يمكن التعبير عن المفهوم نفسه بعبارات جديدة. ماذا يضر لو قال المذيع (نتوقع أن يكون طقس الليلة وغد بدون غيوم، وبالإمكان تكون غيوم خفيفة. أما على مستوى الرؤية فأتوقع انخفاض مداها إلى أقل من 2 كم) أو ما أشبه ذلك. حين ينقل المفهوم المألوف بطريقة غير مألوفة تتجدد رغبة المتلقي في فهم أو إعادة استيعاب الرسالة، وهذا هدف الإعلامي. كما يبرز المذيع ذاتيته في التقرير ويشعر المتلقي بأنه أمام خبير أرصاد جوية وليس أمام آلة تقرأ تقريرا.
بل لقد دخلت الكليشيهات في التفكير، فيما أسميه ثقافة المتابعة، حتى صار أحدنا يفكر كما يفكر غيره، وصرنا قطيعا يصح على الكل ما يصح على الفرد، تكاد تنعدم إحدى أهم سمات المجتمع البشري: التنوع والاختلاف. قاومنا قولبة المستشرقين عن الشرق وأهله، ووقعنا فيها. كنت أستمع للإذاعة في السيارة قبل بضعة أيام، وطلبت المذيعة مداخلات المستمعين عن أبرز اهتماماتهم في الحياة، ولو سئل السؤال في مكان آخر لوردت إجابات مختلفة، أما لدينا فهي الإجابات المتوقعة، وفعلا انهمرت الاتصالات لتجيب بنفس الإجابات، دون إبراز حقيقي للفردية في المجتمع، وكأن الإنسان يخشى أن يبرز ذاته وسط بيئة تعزز التناغم فوق الإبداع، والتأقلم على حساب الفردانية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي