العطارون: بيع الشعوذة وتجارة الخوف

[email protected]

سرني خبر دهم محال العطارين ومصادرة 33 نوعاً مركباً من المركبات والمخلطات لخطورتها. وكم وددت لو تم التضييق على مثل هذه المتاجرة الرخيصة المعتمدة على جهل الناس وخوفهم.
مررت يوماً بأسواق أشيقر وسط الرياض القديمة، وشاهدت طوابير الرجال والنساء على محال العطارة وآلمني مثل هذا التكدس على مستنقعات الجهل والشعوذة. لست أتحدث عن فوائد الأعشاب الطبيعية، فهذه لا تحتاج إلى مدافع، وهي تدخل أصلاً في تركيب الأدوية قديمها وحديثها، ولكني أتحدث عن التركيبات العشبية "المضللة" التي تجلب الولد، وتدفع الضرر، وتقوي الرجل، وتجمل المرأة، وتعين على نائبات الدهر.
يحتمي هؤلاء المشعوذون بالموروث الشعبي والديني في مسألة العطارة والقراءة، ويكسبون من خلال ذلك أضعاف ما يكسبه الأطباء والجراحون، ومن شكك في قدرتهم أو أهدافهم فكأنما شكك في الحق الثابت، وما يعلم من الدين بالضرورة. كما أنني لا أتحدث عن العلاج بالقرآن، حيث له فوائد سيكولوجية واضحة، ولكن القرآن ليس حكراً لأحد يبيعه على الناس بأغلى الأثمان، بل بإمكان الإنسان أن يقرأ على نفسه، أو يقرأ على أخيه، ولكن الاتجار بكلام الله غير مقبول إطلاقاً. أما حديث الصحابة الذين قرأوا على الملدوغ وأخذوا لقاء هذه القراءة فلا يثبت أبداً أن الصحابة امتهنوا القرآن تجارة، أو فتحوا محال يتقاضون فيها أجر قراءتهم. وإنما هي حالة فردية أخذ الصحابة فيها مكافأة على إحسانهم لرجل (غير مسلم بالمناسبة).
إن انتشار هذه المحال لهو وصمة عار في ثقافة الأمة التي تواجه الحاضر بتركيبات عشبية وهمية ماضوية. بل بلغ من بعضهم أن يدق حبوب الفياغرا في أعشاب معالجة أمراض الرجولة، أو خلط تركيبات دفع الوهم والكآبة بحبوب مضادة للاكتئاب، وتعطى بلا إشراف طبي، ولا مراعاة للكمية أو المقدار. ويذهب ضحايا هؤلاء التجار دون رقيب ولا حسيب، وتستمر تجاوزاتهم تحصد مزيدا من الضحايا الذين أجبرهم خوفهم وأملهم على التعلق بتركيبات عشبية تضر ولا تنفع.
إن كان ولا بد من إرضاء لرغبات عشاق العطارة يجب أن تخضع هذه المحال بكل ما يباع فيها لتقنينات ومقاييس هيئة الغذاء والدواء، ووزارة الصحة، مع حملات تفتيش وفحص دورية على هذه المحال، وإغلاق أو معاقبة من يخرج منها على هذه القوانين.
مرة أخرى لست أتحدث هنا عن التداوي بالأعشاب، أو الطب البديل الذي يندرج تحته المعالجات الطبيعية، والمساج، والإبر الصينية، والمعالجة بالطبيعة والموسيقى، بل إن كل هذه تم تصنيفها على أنها من الطب المساعد الذي تتصاعد شهرته في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث تشير إحصائية المركز الوطني للطب المساعد والبديل في الولايات المتحدة أنه في عام 2002 استخدم أكثر من 36 في المائة من الأمريكيين أحد أشكال الطب البديل خلال الاثني عشر شهراً السابقة، وفي بريطانيا أشار استطلاع رأي أجرته "بي بي سي" في عام 1998 إلى أن نحو 20 في المائة ممن شملهم الاستطلاع استخدموا الطب البديل في الاثني عشر شهراً السابقة. ولكن الطب البديل شيء، وخداع الناس بخلطات وهمية، وبيع الأمل لضحايا الخوف والإحباط والاكتئاب شيء آخر، ناهيك عن دخول الدين في هذه المعادلة وأصبح مما تروج به هذه الخلطات.
وا أسفا أن نعيش في عالم تبذل فيه الدول المتقدمة مليارات الدولارات ومئات الآلاف من ساعات العمل والتحليل لاكتشاف عقار جديد، بعمل جاد وجهد مضن ٍ لخدمة البشرية، ويخرج بيننا جاهل متكئ على أريكته يزعم أنه بخلطة عجيبة توصل إلى علاج أعتى الأمراض، وأكثرها تعقيدا. بل الأدهى أن نصدق نحن هذا الكلام، ونحمد الله أن "ظهر" الدواء بين ظهرانينا. كل شيء في ملكوت الله يعمل بناء على أنظمة دقيقة وقوانين كونية لا تنثني لأحد، ولا يمكن خرقها أو الالتفاف عليها، بل يجب العمل من خلالها لكي نصل إلى نتيجة. وقوانين الفيزياء، والفسيولوجيا، وعلوم الأمراض والأوبئة لهي من هذه القوانين التي خلقها الله، وجعلها تتبع هذا النظام الكوني الدقيق، فلكي نعالج الأورام السرطانية، يجب أولاً فهم طبيعتها، وكيفية نشوئها، وطبيعة الخلايا الطبيعية، والخلايا السرطانية، وغير ذلك كثير مما أجهله. فكيف بربكم يأتي شخص ويكتشف علاج السرطان وهو لا يعلم ما هو السرطان، ولا يمكنه أن يتعرف عليه لو رآه في أشعة أو تحاليل، ولا يعرف الفرق بين الخلية السليمة والخلية السرطانية. كيف يمكن لهذا أن يخترق قوانين الكون؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي