محمد الحركان.. القاضي العلامة وأول وزير عدل سعودي
الشيخ العلامة محمد بن علي الحركان واضع أساسيات أول وزارة عدل في المملكة، رجل بدأ من الألف حتى وصل الياء بكل ثقة، في البداية تنقل بين مناطق المملكة من المدينة إلى العلا، ومن جدة إلى الرياض، وأخيرا إلى مكة، كل هذا لخدمة القضاء السعودي، رأس الكثير من المنظمات الإسلامية من أجل خدمة الإسلام والمسلمين.
حاز ثقة الملكين سعود وفيصل بن عبد العزيز - رحمهما الله- لا يمر على منصب سواء قضائي أو في خدمة الإسلام، لا يخرج منه حتى يخدمه بكل إخلاص، ويقدم فيه ما يخدم الناس بكل يسر وسهولة. كما أنه كلف بتقديم دراسة وتصور لمنهاج الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة والمواد التي يتطلب تدريسها في جامعة الملك سعود قبل افتتاحها.
"أوائل" تفرد هذه الصفحة لسيرة رجل خدم الإسلام والوطن، ويستحق أن نتذكره ونذكر به.
ولد العلامة الفقيه الشيخ محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الحركان في المدينة المنورة في عام 1333 هـ. وهو ينتمي إلى أسرة كبيرة ومعروفة في مدينة عنيزة في القصيم . انتقل بعض أفراد هذه العائلة إلى المدينة المنورة ولا يزال بعضهم مقيماً في القصيم. من بين من انتقلوا كما يقول جده محمد الحركان وابنه علي الذي كان صغيراً في السن "حيث كان يعمل جدُّ والدي في ذلك الوقت في التجارة".
نشأ الشيخ محمد بن علي الحركان - رحمه الله - وترعرع في كنف والده علي الحركان. كانت دراسته في كل من المسجد النبوي ومدرسة العلوم الشرعية. وهي المدرسة النظامية الوحيدة في المدينة المنورة في ذلك الوقت. وكما هو معلوم فإن هذه المدرسة أسسها العلامة أحمد الفيض أبادي في المدينة المنورة. وكان عمره وقت التحاقه بهذه المدرسة سبع سنوات. حفظ في هذه المدرسة القرآن الكريم، وتعلم مبادئ بعض العلوم فيها مثل الخط، الحساب، الفقه، التوحيد، اللغة الغربية، وغيرها، وتمكن من حفظ القرآن الكريم وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره.
ولم تقتصر دراسته على ما تلقاه في تلك المدرسة، بل واصل دراسته في المسجد النبوي الشريف حيث درس على أيدي مشايخ المسجد النبوي الشريف كما هو المتبع في تلك الحقبة من الزمان. فأخذ من حلقات العلم التي تعقد في الحرم النبوي العلوم الدينية من أمهات الكتب الشرعية.
حياته العلمية والعملية
درس - رحمه الله - فنون اللغة العربية وآدابها وأصولها وفروعها على يد عالم المدينة المنورة في الحرم الشريف في تلك الحقبة الشيخ محمد الطيب الأنصاري التمبكتي - رحمه الله - وهو العلامة المهاجر إلى المدينة المنورة من بلاد شنقيط في موريتانيا، وكان ممن درس معه عند الشيخ محمد الطيب الأنصاري رحمه الله كل من ضياء الدين رجب والمؤرخ محمد حسين زيدان - رحمهما الله - وكان الأخير عالماً فاضلاً، شاعراً، وفقيهاً. وهو يدرس جميع العلوم في الحرم النبوي الشريف.
أنهى الشيخ محمد بن علي الحركان دراسته في المسجد النبوي عام 1353هـ حيث أخذ مكانه في التدريس في الحرم النبوي وكذلك الإمامة في بعض الأوقات، فعين مدرساً رسمياً في المسجد النبوي براتب قدره 22 ريالاً شهرياً وعمره 20 عاماً، وكانت حلقات تدريسه مستمرة وبشكل يومي في الحرم النبوي الشريف حيث كانت له حلقة تدريس بعد صلاة الفجر وأخرى في المساء، كما أنه كان يقضي بقية وقته بالعمل في التجارة بجانب عمله في التدريس.
في عام 1356 هـ عين قاضياً في العلا بأمر من المرحوم الشيخ عبد الله آل الشيخ - رحمه الله - حيث كان يشغل وظيفة رئيس القضاة في الحجاز آنذاك وكان عمره رحمه الله وقت تعيينه في سلك القضاة 23 عاماً، ومكث في القضاء في مدينة العلا عاماً واحداً، ولكون مدينة العلا في ذلك الوقت تعد قرية مقارنة بالمدينة المنورة لم يتمكن من الاستمرار والحياة فيها، فتقدم بطلب إلى المغفور له بإذن الله - الملك عبد العزيز آل سعود طالباً إعفائه من العمل بالقضاء في مدينة العلا فقدر مشكوراً ذلك الالتماس المقدم ولبي طلبه ثم عاد إلى المدينة المنورة ليواصل عمله السابق وهو التدريس في الحرم النبوي الشريف وكذلك إدارة أعماله التجارية حيث كان له متجراً صغيراً في سوق الحبابة في المدينة المنورة.
في عام 1372 هـ تلقي عرضاً من الملك سعود بن عبد العزيز - رحمه الله - وكان في ذلك الوقت وليا للعهد يطلب منه تولي القضاء في جدة بدلاً من الشيخ محمد البيز - رحمه الله - الذي كان يشغل وظيفة رئيس محكمة جدة ومنح راتباً قدره 800 ريال.
كانت محكمة جدة من البساطة والتواضع حيث لم يكن في هذه محكمة في ذلك الوقت معه قاض سوى فضيلة الشيخ محمد محمد المرزوقي - رحمه الله - وقد كانت المحكمة تقع في شارع الملك عبد العزيز حيث كانت تشغل نحو أربع غرف تقريبا في الطابق الثاني مع كراج لبلدية جدة وهذا الموقع هو الآن يقع تقريباً في جزء من موقع المركز التجاري المسمى حالياً مركز المحمل التجاري.
أعماله في محكمة جدة
ظل في القضاء في جدة رئيساً للمحكمة مدة 18 عاماً من عام 1372 هـ حتى عام 1390 هـ وفي هذه الفترة نمت وتطورت محكمة جدة مواكبة لتطور المملكة حيث تنقلت في عدد من الأحياء القريبة من مركز البلد لتخدم عامة الناس وذوي الحاجة من الفقراء الذين يسكنون في جدة المشكلين نحو 90 في المائة من روادها وليتمكنوا من الوصول إلى المحكمة دونما عناء أو تكلفة حتى تم العثور على قطعة أرض فسيحة وتحققت هذه الأهداف وسعى لدى الجهات المختصة لإصدار الموافقة والإذن ببناء هذا الموقع ليكون مقراً لهذه المحكمة تتوافر فيه هذه المواصفات كما ازداد عدد القضاة في هذه المحكمة إلى أكثر من ستة قضاة حتى ذلك الوقت خلافاً للقضاة العاملين في المحكمة المستعجلة بعد فصلها عن المحكمة الشرعية الكبرى التي كانت في السابق محكمة واحدة وكذلك تغير مسمي المحكمة الشرعية إلى المحكمة الشرعية الكبرى.
في منزله
كان رحمة الله محباً للعمل حيث كان يعمل وقت وصوله إلى جدة صباحاً في المحكمة وفي المساء كان له مجلس يومي في المنزل يقصده من يرغب من سكان جدة على اختلاف طبقاتهم ليحصلوا من وراء هذا اللقاء على الفتوى الشرعية ، أو فض بعض المنازعات صلحاً بين الأطراف المتنازعة ، أو الحصول على استشارات قضائية في أمور شرعية تخص المجتمع.
جهوده في التعليم العالي
كلف - رحمه الله - مع نخبة من العلماء والمسؤولين في الدولة وبعض أعيان المملكة لدراسة وضع الطلبة السعوديين المبتعثين للدراسة في الدول العربية في عهد الملك سعود بن عبد العزيز - رحمه الله - فترأس وفد المملكة هذا وكان ذلك قبل افتتاح جامعة الملك سعود في الرياض. بعد تلك الدراسة وقبل عودة الطلاب المبتعثين لتكملة دراستهم في المملكة تبرع الملك سعود بسبعة قصور في مدينة جدة لتكون مقراً لسكن الطلاب عند عودتهم للدراسة في المملكة. وهو ذلك الموقع الذي تشغله في الوقت الراهن الإدارة العامة للتعليم في محافظة جدة. كما كلف - رحمه الله - بتقديم دراسة وتصور لمنهاج الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة والمواد التي يتطلب تدريسها في هذه الجامعة قبل افتتاحها.
وزارة العدل
صدر أمر ملكي بتحويل رئاسة القضاء إلى وزارة العدل وكان ذلك سنة 1391هـ حيث تم هذا الأمر في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز - رحمه الله - وصدر مرسوم ملكي بتعيينه وزيراً للعدل ليكون أول وزير للعدل في المملكة العربية السعودية، فانتقل من جدة إلى الرياض وظل - رحمه الله – في هذه الوزارة حتى عام 1395هـ حيث تمت إحالته إلى التقاعد. وترأس وفد الحوار الإسلامي - المسيحي في الفاتيكان وقت أن كان وزيراً للعدل بهدف شرح ودحض الشبهات التي يثيرها النصارى تجاه بعض المواقف الإسلامية في كثير من أمور الدين والدنيا. وامتدت الزيارة إلى كل من جنيف وباريس لتحقيق الهدف ذاته.
رابطة العالم الإسلامي
تم ترشيحه بعد حصوله على التقاعد للعمل برابطة العالم الإسلامي وكان ذلك الترشيح بعد إحالته إلى التقاعد بفترة من الزمن حيث إنه أصبح في هذا الموقع خلفاً الشيخ محمد صالح القزاز - رحمه الله - وتم ذلك في شهر ذي القعدة عام 1396هـ ليصبح الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي وانتقل من الرياض إلى مقر عمله الجديد في مكة المكرمة. وقام في هذه الفترة بزيارة الأقليات الإسلامية في كل من آسيا، أوربا، أفريقيا والأمريكتين من أجل تفقد أحوال المسلمين، ومناصرة قضاياهم، وترأس وشارك في عدد من المؤتمرات الإسلامية كان من بينها المؤتمر الإسلامي العالمي للمنظمات الإسلامية الذي عقد في مكة المكرمة بدعوة من رابطة العالم الإسلامي سنة 1394 هـ، ثم ترأس اجتماع الدورة الثالثة للمجلس القاري لمساجد أوروبا، المنعقد في بروكسل، الذي نشأ نتيجة لجهود مشكورة قامت بها رابطة العالم الإسلامي ومن ثمرة ذلك ما تم خلاله من توصيات مهمة تخص العالم الإسلامي.
كانت آخر رحلة للشيخ الحركان - رحمه الله - زيارته في شهر صفر 1403 هـ دول جنوب شرقي آسيا، حيث افتتح المجلس المحلي للمساجد في ماليزيا، والمجلس القاري لمساجد آسيا والباسفيك ومقره في جاكرتا عاصمة إندونيسيا وهذا العمل هو نظير ما قامت به الرابطة من جهد في أوروبا، وكذلك المركز الإسلامي الجديد في طوكيو في اليابان، حيث داهمه مرض القلب هناك وخضع للعلاج في مستشفيات طوكيو.
وفاته
انتقل إلى رحمة الله تعالى في مستشفي الحرس الوطني في جدة يوم الجمعة 7/9/1403هـ ودفن في مكة المكرمة في مقبرة المعلاة. نعاه وتحدث عنه بعد وفاته - رحمه الله - عدد من الشخصيات والكتاب في عدد من الصحف والمجلات المحلية والأجنبية منها مجلة "رابطة العالم الإسلامي" الشهرية في عددها العاشر من شهر 1403 هـ، مجلة "رسالة المسجد" الشهرية، وجريدة "الأهرام" في القاهرة.