ظروف استثنائية
لطالما شعرت من خلال مراقبتي تطورات تجربة الغلاء التي تكتسحنا مع بقية دول العالم، أنها حالة فريدة من نوعها تختلف في حدتها وطبيعتها عما سبقها من موجات تضخمية. لم تقتصر مراقبتي لهذه التطورات على المؤشرات الفنية، بل حرصت أيضا على تتبع واستجلاء دقائق تطورات السوق من خلال الرصد والتدوين والاستفسار المتواصل من بعض الإخوة العاملين في مختلف الأسواق من رجال الأعمال والتجار. وبمرور الوقت كان يتأكد لي أن موجة التضخم العالمية الجارية هي واحدة من أقوى وأعمق وقد تكون أيضا من أطول موجات الرواج التضخمية التي شهدها عصرنا الحديث. وقد استرعى انتباهي أن كينيث روجوف انتهى لهذه الملاحظة نفسها، في مقالته التي نشرتها "الاقتصادية" قبل أسبوعين تحت عنوان: "النعمة الخفية في ارتفاع أسعار السلع الأساسية". في حين وصف أخي الأستاذ نجيب الزامل ما يحدث للأسعار بأنه سعيرٌ وسعار! سعيرٌ يشوي الجلد الحي، وسعار يدمر الخلايا حتى العظم! ولم يسبق أن استحقت مستويات الأسعار هذا الوصف على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وذكر لي أخي المهندس رائد المديهيم، وهو المسؤول الأول عن قطاع مواد البناء في شركة المهيدب، أن تطور أسعار الحديد فاق كل تصور وخالف كل توقع! وإذا كانت زيادة أسعار الحديد قد جاوزت كل الحدود المتوقعة، بارتفاعها بنحو خمسة أضعاف ما كانت عليه قبل سنتين، فإن أسعار بقية مواد البناء من الأخشاب والأسمنت والأنابيب وأدوات السباكة والكهرباء لم تسلم هي الأخرى من ذات الاتجاه وإن كانت أقل حدة. وقد أدى هذا الجموح غير المألوف في أسعار مواد البناء، لارتباك كبير في قطاع المقاولات والبناء، وصل إلى توقف العمل في بعض المشاريع الإنشائية والإسكانية، وإلى بطء تنفيذ بعضها الآخر. ما سيجعل لهذه التطورات ذيولا مؤثرة في المعروض من المساكن، ومن ثم على أسعار العقارات وقيمة الإيجارات.
نحن لسنا في أزمة.. بل أزمات اقتصادية تكاد تطول كل شيء! والمقلق فيها أنها وصلت إلى حاجات الناس الأساسية في الغذاء والدواء والمأوى. لكن هذه الأزمات تعلمنا درسا مهما جدا لطالما كنا بحاجة لاستيعابه وتعلمه. وهو أن محاولة الهروب من توقع ما هو آت، أو التردد في الاستعداد لما تدل عليه المؤشرات، لا يفيدنا في شيء ولا يعيننا على حل المشكلات، إن لم يضر بنا وبأسواقنا، ويعمق من مشكلاتنا ويضيق علينا فرص حلها.
بكل المقاييس، نحن نعاصر فترة استثنائية في مسيرة حياتنا التنموية تتطلب مراجعات استثنائية لجميع أنظمتنا وإجراءاتنا الإدارية وسياساتنا الاقتصادية التوجيهية منها والتحفيزية. تحديات اليوم تتطلب منا تبني سياسات اقتصادية تتصف بالمهنية العالية والكفاءة الشافية والمرونة الكافية، تسمح بتوليد بيئة عمل صحية صالحة، تكون قادرة على الاستجابة لقفزات السكان المتتالية، وضغوط العولمة الطاغية.
إن بعض أسواقنا بحاجة لجرعات قوية من المنافسة تقضي على مظاهر الاحتكار أو شبه الاحتكار، وتقضي على كل فساد يمنع قوى السوق الطبيعية من أن تأخذ دورها في توجيه الموارد لتوفير حاجات الناس في الوقت المناسب وبالكميات الكافية. إن قوى السوق الحرة لا توجه فقط الموارد التوجيه الملائم نحو الاستخدامات المختلفة، بل إنها تمدنا بتحذيرات مبكرة عن الزيادة في المطلوب أو النقص في المعروض، الذي يدفع العارضين والمنتجين من التجار والعاملين على توسيع الإنتاج أو جلب البضائع لضبط حاجة الأسواق.
هذه موجة غلاء عنيفة لم يسلم أحد منها، وقد أضرت بالجميع منتجين ومستهلكين، مشترين وبائعين، وإن كان تأثيرها على أحوال الطبقتين الفقيرة والمتوسطة أمسى كاسحا وخطيرا. الظروف والأحوال الاستثنائية، تتطلب معالجات وسياسات اقتصادية غير تقليدية، وإجراءات إدارية غير نمطية، لإعادة الاستقرار إلى أحوال الرعية.