معجزة الوضع في الولادة!

معجزة الوضع في الولادة!

[email protected]

أذكر جيدا من طفولتي قصة لا أنساها روتها لي والدتي عن المرأة التي وضعت؛ فأخرجت جنينها، ثم ارتاحت لفترة قصيرة، لتفاجأ بنزف قاتل، أسلمها للموت في تلك الليلة المشؤومة، وكان الطب وقتها عندنا في بدايته في الخمسينات من القرن الفائت.
نعم إنها قصة زوجة ناصر حدي المسيحي، الذي عمل لها على طريقتهم سفرة ماريمانة لقيامها بالسلامة من الوضع، ولكن لم تكتمل الفرحة، وغرق في الدموع والحزن بقية حياته، بعد أن خسر أحب الناس إليه، ورزق بالطفل اليتيم منها.. رحم الله والدتي ورحم الله زوجة ناصر حدي.
وهذه القصة تشبه قصة اللحظات التي ولد فيها الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) عام 1712م في جنيف، فقد كانت أمه في محنة كبيرة، حين كانت تنزف على نحو خطير.
والأطباء يعرفون هذه الظاهرة عندما يعجز الرحم عن التقلص بعد الولادة. وقصة الولادة معجزة إلهية.
وفي أنفسكم أفلا تبصرون.
والمهم فإن أم الفيلسوف روسو كانت تحتضر من النزف، وبعد ولادته بساعة ماتت، أما أبوه فكان منفياً من المدينة، وهكذا تعلم الفلسفة من المعاناة؛ فعند الوضع يبدأ الرحم في التقلص والارتخاء، ليدفع بالجنين إلى العالم الخارجي.
ويدخل الجنين محنة حقيقة بين الشد والارتخاء؛ فإذا تقلص الرحم دفعة واحدة مات الجنين، وإذا ارتخى مات الجنين فلم يخرج.
والحياة تولد في جو من هذا النظم الرائع بين التقلص والارتخاء؛ فيطل الجنين برأسه الى الحياة.
وتبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة.
ولكن المعجزة الأكبر هي حين خروج الجنين من الرحم؛ فيوحى خروج الجنين إلى الرحم أن تقلص بأعظم قوة وأشد مراس، لحبس وإحكام إغلاق فوهات الدم الرهيبة المفتوحة بعد اقتلاع المشيمة من مكانها.
وإذا حدث لسبب أو آخر أن يعجز الرحم عن التقلص وإغلاق حنفيات الدم المفتوحة، كان معه هلاك الأم بالنزف الصاعق.
ويعرف أطباء النسائية هذه الظاهرة جيداً، وقد توصل العلم الى معرفة الهورمون المتسبب في تقلص الرحم فقلده واخترع مادة (الميثرجين) ومشتقاتها لحقن وريد الأم النازفة فيتقلص الرحم فتنجو من الموت.
وقد لايفيد الدواء فيهرع الأطباء الى فتح البطن لعمل شيء ما لإنقاذ الوالدة من الموت.
وأطباء النسائية يعانون ضغطا نفسيا رهيبا في مثل تلك الساعات العسيرة من ليالي الرعب.
وأحياناً يستعينون بزملائهم من أقسام الجراحة لخوض غمار معركة رهيبة من النوف القاتل أمام عدو لايرحم.
وهو ما أتذكره جيدا مع اليمنية سعيدة التي ناداني إليها الدكتور (عثمان غندور) السوداني ربع ساعة قبل منتصف الليل؟!
قال لي لم نتصل بك إلا لأننا عجزنا عن ضبط النزف.
وهنا يطلب من جراح الأوعية اجتراح المعجزات كما يقال، وصمدنا صمود طارق بن زياد في معاركه حتى الصباح، وكان قائد الاوركسترا المخدر الدكتور غياث الذي يحرك يديه أن توقفوا، وأن تابعوا، مع هبوط وارتفاع الضغط.. رضي الله عنهم أجمعين عن تلك الليلة الليلاء.
ونقل للمريضة اليمنية سعيدة الحظ 25 وحدة دم، وعاشت، وكتب لها النجاة، وجاءتني برجلها إلى العيادة هذا مغتسل بارد وشراب وأهدتني قهوة يمنية وأنا أفرك عيني لا أصدق؟
والمهم فإن أم الفيلسوف روسو كانت تحتضر من النزف وبعد ولادته بساعة ماتت. أما أبوه فكان منفياً من المدينة وهكذا تعلم الفلسفة من المعاناة. فخرج يتيما إلى الحياة. ولايعرف معاناة اليتيم إلا من خبرها بنفسه، أو كان قريباً من عائلة يعرف معاناة أهلها بين أرمل ويتيم. وعندما نقرأ القرآن تطالعنا الآيات التي تخوض معركة الدفاع عن الضعفاء من الأرامل واليتيم والفقير، أي أن مشكلة التوحيد هي معركة اجتماعية بالدرجة الأولى، ونحن نعلم من نبينا صلى الله عليه وسلم أنه أيضاً عاش يتيماً. ويبدو أن سيكولوجية اليتيم مهمة لأنه يعاني التجربة بنفسه فيمتلئ قلبه ويفيض بالرحمة.
ولقد كتب روسو كتاباً كاملاً عن التربية بعنوان (اميل) يدعو فيها إلى تربية الطفل بشكل تفصيلي فهو ذاق اليتم وعانى مرارته ولذا كرس نفسه لتربية الطفل.

الأكثر قراءة