ذكرياتي عن ألمانيا الشرقية
كانت زيارة ألمانيا الشرقية ليست سهلة، يسقط من يتورط فيها في شبكة من معاملات مرهقة مزعجة، عليها إشارات استفهام لا تنتهي، فإذا دخلها صرف المارك الغربي بالشرقي وهو أضعاف أضعافه، ولا يستطيع أن يشتري ما يريد، فالنظام يطلب من المواطن أن يشتري حاجته، أما الكماليات فقد تعدى حدود النظام وعتا عتوا كبيرا؟
كان ذلك قبل سقوط حائط برلين، وكنت يومها في رحلة اختصاصي في قسمها الذي كان يسمى ألمانيا الغربية، أما الشرقي فكانوا لا يسمونه ألمانيا الشرقية، بل جمهورية ألمانيا الديموقراطية (D D R) في نكتة كبرى، عن وطن لم يبق فيه مكان للمواطنة والديمقراطية، وجمهورية قد تملك أي شيء إلا الديموقراطية، فلا يشمها المواطن المنكوب، إلا من مسافة سبعين خريفا؟ يهرب منها الألماني بسبب إلى السماء، على جناح الريح، فيما يشبه قفزات وطواط الليل، أو مقلداً الأرانب بأنفاق يحفرها في باطن الأرض، أو أن يدخل مغامرة تكلف الرأس وما حمل، عندما نجح مغامر سوري في تهريب عائلة بكاملها في الصندوق الخلفي للسيارة؟ معرضين للاختناق بانعدام التنفس، الذي اعتادوه تحت مظلة نظام (هونيكر)..
وبعد هذه الحادثة تعلم الشرقيون بعدها أن يضعوا الآلات الراصدة للحم الحي؟
كان الألمان الشرقيون ينجحون أحيانا في الفرار من مثلث الرعب، وفي الأغلب يطلق عليهم الرصاص فيقتلون، أو يموتون اختناقاً أو حرقاً أو غرقاً أو مهشمة عظامهم، يسقط أحدهم من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، وهم في طريقهم إلى الحرية؟! فتنشدها أرواحهم المعذبة قبل سقوط الوداع..
إن سفرا كاملاً يكتب عن قصة رواد الحرية وعشاقها .
في أحد الأيام زرت مدينة (فولفسبورغ WOLFSBURG) لزيارة صديقي أحمد المسقطي، كان يسكن ألمانيا الغربية منذ عشرات السنوات، قبل أن يستقر في مسقط ويتزوج بأم الخيرين مضاعفة في الخير، وكان يعمل وقتها في شركة إنتاج سيارات (الفولكس فاجن) الشعبية و(أودي)، التي لم تعد شعبية بحال؟ وغامرنا من الاقتراب من حدود ألمانيا الشرقية، وعندما أعدنا البصر كرتين انقلب إلينا البصر خاسئاً وهو حسير؛ فشاهدنا أعشاش المراقبة فوق الأسلاك الشائكة، مسلحة بالمناظير المقربة، والرشاشات المبعدة جاهزة للقتل، وسمعنا حركة (خرطشة) السلاح وهم يتأملون الطفيليين يقتربان.
إن الشباب جديون جاهزون لحماية المكتسبات الاشتراكية؟
كانت ألمانيا قد قسمت بعد الحرب العالمية الثانية إلى شطرين، وفي عمق قسمها الشرقي تقبع برلين بجدارين، أشبه بالكروموسومات (الصبغيات) الحية، مطوقة بنواة الخلية؛ فسور يقسم العاصمة إلى قسمين، يخترق البيوت والمزارع والحانات فلا قيمة إلا للنظام؟
وسور يغلف ألمانيا الشرقية مثل غلاف الخلية الخارجي، وكان من يريد زيارة برلين من أراضي ألمانيا الغربية؛ فإن عليه أن يعبر مسافة 300 كيلو متر عبر أراضي الدولة الاشتراكية الشقيقة، في زيارة غير مرحب بها، وجار لا يأمن جاره بوائقه؟
وكانت زيارة مثيرة يدخل فيها الزائر إلى عمق أحشاء النظام الاشتراكي؛ فيرى نظام الحياة ونشاط المجتمع، ودبيب البشر والبنية التحتية، فيما لا يستطيع النظام أن يخفيه أو يطبل له ويزمر؛ فتعرف الناس في سيماهم وحركاتهم وأشكالهم...
كان نظام ألمانيا الشرقية أقسى امتحان للنظم الشمولية، أمام دخول الرأسماليين المتكرر عنوة كل يوم، إلى أحشاء النظام الاشتراكي يتأملونه ويسخرون من عجزه في حراسة مشددة من الإرهاب لكيان مصطنع؟
وهذا ما قدر لي في زيارتي المثيرة التي أخطأت فيها الطريق فدخلت برلين الشرقية بدلاً من الغربية؟!