الماء: أعز موجود وأغلى مفقود ونحن نهدره بلا حدود!

ذلكم هو الماء، الذي جعل الله منه كل شيء حيّ، ولو أن شخصا تاه في الصحراء وأشرف على الموت من شدة العطش، وجاءه من يساومه على جرعة ماء بكل ما يملك من مال لاختار الماء!، ذلك أنه عند اشتداد الحاجة إلى الماء، يغيب أي تفكير في الاحتياجات الضرورية الأخرى، والماء هو "إكسير" الحياة إن جازت التسمية، وعلى موارده تقاتلت القبائل العربية قديما، متناسية ما يجمعها من علاقات الدين والدم والجوار، وعلى موارده الحديثة تتقاتل الأمم، وها نحن نرى نذر الحرب بسبب الموارد المائية تلوح في كل أفق من العالم الآن.
والمملكة بلد شحيح في المصادر المائية أصلا، وقد زاد من هذا الشح مجموعة ممارسات قمنا بها في الماضي لاستنزاف المخزون القليل منه، حتى اضطررنا إلى الاتجاه إلى البحر نستخلص منه الماء الذي نشربه، بل ونستعمله في غسيل البيوت والسيارات والشوارع على حد سواء، حتى أصبحنا أكبر بلد في إنتاج المياه المحلاة، التي تستنزف من الأموال ما لا يقدر عليه بلد آخر.
ولكي تأخذ الصورة أبعادها، تشير المعلومات الموثقة إلى أن المملكة تعد أكبر بلد مستهلك للمياه في العالم على المستوى الفردي، حيث يبلغ استهلاك الفرد منه 270 لترا يوميا (ما يعادل 15 كرتونا من المياه المعبأة قياس 1.5 لتر × 12 قارورة)، كما تشير إلى أن هناك مليون لتر تفقد يوميا من شقوق الشبكة (صحيفة "الوطن" 24/4/1429هـ)!
تصوروا: استهلاك فرد واحد في المجتمع يعادل 15 كرتون مياه لو أنها جلبت في كراتين لسدت مداخل البيوت، ولا شك في أن أي شخص ستأخذه الدهشة والشك في صحة المعلومة، لأنه يدرك أن السعوديين صحراويون يفترض ألا يستهلكوا من الماء إلا أقله للاستعمال الشخصي، فكيف يصل استهلاك الفرد إلى هذا الحد؟! وهو استنتاج سليم، بيد أن معدل الاستهلاك يقاس بقسمة ما يستهلكه أي بلد على عدد السكان فيه، بغض النظر عن توزيع هذا الاستهلاك على أوجه الاستعمال، ففي المملكة مثلا يكاد الواقع ينبئ عن أن استهلاك الفرد الفعلي لا يتعدى 40 لترا، أما الباقي من الـ 270 لترا فيذهب هدرا، ويمكن بالتحليل التالي تقريب الصورة أكثر إلى الذهن:
ـ مليون لتر يذهب تسربا يوميا في الشبكة، كما أشار وزير المياه والكهرباء (المصدر السابق) وهو يعادل 20 في المائة من الاستهلاك الكلي، أي ما يكفي لجريان وادي حنيفة أو وادي الرمة على مدار العام.
ـ هناك نحو ثمانية ملايين مقيم، عدا الحجاج والمعتمرين والزوار، معظمهم لا يتحمل أي قيمة لما يستهلكه، باعتبار الماء مؤمنا لهم بالتبعية، لذا فهم لا يهتمون بترشيد استهلاكه.
ـ هناك خدم المنازل الذين قدموا من بلدان تغرقها الأنهار، ويظنون أن المملكة تنام على بحور من المياه العذبة! كيف لا وهم لم يسبق أن سمعوا بلغتهم التي يفهمونها أي تنبيه إلى خطورة وضع الماء في المملكة.
ـ هناك المنازل، وبعض المزارع والاستراحات التي تستهلك المياه دون عدادات، أو حتى التي بها عدادات، وتستخدمه في غير أغراض الاستخدام البشري.
ـ هناك الوحدات السكنية أي الشقق التي تدفع مبلغا مقطوعا عن الاستهلاك، ومن ثم فهي لا تهتم بمقدار الاستهلاك، بل إن البعض يتعمد الهدر لاستيفاء قيمة ما دفعه، ناهيك عن عدم إصلاح أي تسرب يحدث، وبما أن عدد الشقق يفوق عدد البيوت المستقلة، فلنا أن نتصور مقدار الهدر فيها.
إذا كانت هذه هي الصورة، أو قريبا منها، فكيف لنا أن ننتظر من شخص لا يدفع شيئا، أو حتى الذي يدفع عشر هللات لكل ألف لتر، وهم معظم السكان، نسبة إلى سعر الشرائح الأولى، أن يقتصد في الاستهلاك؟ كيف نطمع من أناس يقيمون على حساب غيرهم، أو يدفعون مبلغا مقطوعا أن يراعوا الاستهلاك؟! كيف ننتظر ممن قدم من بلد كلها أنهار أن يعي مشكلة الماء لدينا؟! ولو أن مشكلة الماء المتأزمة لدينا كانت في بلد آخر لأصبح الماء أغلى سلعة فيه، لكن كرم الدولة هنا وإغداقها تسبب في غياب الشعور بوجود المشكلة، وهو ما يزيد من تفاقمها، فاليوم لدينا أموال نستطيع بها تحلية البحر، أو جلب الماء في بوارج كما حصل أخيرا، لكن مَن الذي سينقذ أبناءنا ومن بعدهم من العطش إذا انكمشت الموارد المالية؟!
الحديث طويل لكن لعلي أستفيد مما بقي من حيز لمقالي هذا في تبيان بعض الأمور التي يهمني تبيانها:
1 ـ من باب الإنصاف الإشادة بخطوة الوزارة عندما تبنت مشروع توفير الأدوات المرشدة للاستهلاك بدون مقابل، وبعضها بمقابل رمزي، فأنا ممن استخدمها واستفاد منها، وغيري كثيرون، بيد أن هناك مرافق ومساكن كثيرة لم تعترف بها حتى الآن، ويحتاج الأمر إلى دراسة الارتقاء بها من الخيار إلى الإلزام، ولو كلف ذلك بعض الجهد والمال.
2 ـ خطوة أخرى خطتها الوزارة عندما طلبت من بعض المواطنين التعاون معها في مجال التوعية والترشيد للإبلاغ عن التسربات المنزلية، وخصصت لكل متعاون رقما سريا، كما حددت أرقام الإبلاغ، ومن تجربة شخصية في مجال التعاون، أستطيع القول إن هذا المشروع، الذي ينفذ على صعيد التجربة في مدينة الرياض، بحاجة إلى المزيد من البلورة والدراسة في ضوء هذه التجربة، تمهيدا لتطبيقه في باقي المدن.
3 ـ نظام تزويد الشقق السكنية بالماء هو السبب الرئيس للهدر، إذ إن الساكن لا يهمه مقدار الاستهلاك ما دام يدفع قيمة مقطوعة، والوزارة لا يهمها بالتأكيد قيمة الاستهلاك وإن كبرت للمبنى ككل، بقدر ما يهمها خفض الاستهلاك، وسبق أن علمت من جهة الوزارة أنه يصعب تركيب عدادات مستقلة للوحدات, نظرا لوحدة مصدر التغذية وهو الخزان الأرضي, وأشير في هذا الخصوص إلى أن تجربة مصر, وهي التي يجري فيها النيل, جديرة بالاقتفاء, وهي تتمثل في تركيب العدادات في أنابيب التغذية النازلة من الخزان العلوي إلى الشقق, كما أشير إلى أن هناك نظاما في المملكة قد يساعد على تعزيز هذا التوجه وحمايته وتعميمه على المباني القائمة, وهو نظام فرز الوحدات السكنية.
4 ـ بصرف النظر عما قيل ويقال من كلام, يراد به الاستهلاك أو تسجيل المواقف, فإن تسعيرة الماء لدينا هي واحد من الأسباب الرئيسة للهدر, فسعر عشر هللات للمتر المكعب, للشريحة الأولى, و15 هللة للشريحة الثانية, هو سعر يدعو إلى الاستغراب والتعجب, خاصة إذا علم أن معظم المشتركين لا يتعدى استهلاكهم هاتين الشريحتين. والأغرب أن يقال إن المستهدف منه هم ذوو الدخول المنخفضة, في حين أن أول من يستفيد منه هم المقيمون والمحال التجارية والمطاعم وغيرها, وإذا كان المقصود منفعة المواطن الفقير فهناك أكثر من طريق لإيصال المنفعة, غير تقديم الماء بهذه الطريقة الموغلة في السخاء, وقد قال الأولون (ما هان مدخاله هان مخراجه), وما دام شبح النضوب والمعاناة في الحصول على الماء ماثلا أمامنا فخير للمواطن وغيره أن يحصل عليه بسعر معقول, من أن يبحث عنه فلا يجده حتى بأضعاف السعر الحالي. والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي