استهلاك الطاقة .. خارطة طريق

[email protected]

من بين السلوكيات المتناقضة في الحياة أن يبصر المرء ما يجري في ساحة غيره، سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو المجتمعات، من إعمال لسنن الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، ويحسب أنه في منأى عن تلك السنن متناسياً لها أو غافلاً عنها لما قد يتراءى له من فوارق أو عوامل اختلاف في المكان أو الزمان. وربما أن ذلك السلوك يُفسّر ما تحفل به الحضارة الإنسانية من أخطاء متكررة بسبب عدم إفادة الأمم من تجارب السابقين رغم التشابه الكبير إلى حد التماثل في الإرهاصات والمقدمات. والشاهد هنا ما يجري في سوق الطاقة العالمية وما يعصف بها من تقلبات حادة، في الوقت الذي يعتقد البعض أن الدول الغنية بالنفط وعلى رأسها المملكة لن تطولها تداعيات واستحقاقات تلك الأحوال المضطربة، وبالتالي لا ينبغي أن تشغل نفسها بها لما حباها الله سبحانه وتعالى من احتياطيات مؤكدة للنفط هي الأكبر في هذا الكوكب.
إن الحكمة تقضي بعدم الإصغاء إلى مثل ذلك الطرح، إذ إنه وإن بدا في ظاهره بريئاً، إلا أن نتائجه ستكون وخيمة على مصالح دول النفط وقدراتها على توفير تنمية مستدامة لمجتمعاتها في المدى الطويل. ذلك أن تلك الدول لن تكون في معزل عن الأزمات التي تلوح في أفق سوق الطاقة، كما أنها ستكون الأكثر تأثرا بما ستحمله التغيرات الجذرية المقبلة في التقنية أو ما يعرف بالتقنيات المربكة، لما يشكله دخل النفط من أهمية في برامج إنفاقها. ثم إن وفرة النفط في المملكة وبعض دول الخليج الأخرى أفرزت أنماطاًُ استهلاكية جعلت من مجتمعات تلك الدول تبذّر تلك الثروة في حين تمارس المجتمعات الأخرى ترشيداً صارماً في الاستخدامات العامة والخاصة من خلال أسعار وسياسات ضريبية متصاعدة أو قوانين ملزمة. ومن ثم فإن أية صدمة في المستقبل نتيجة تراجع إمدادات الطاقة التقليدية أو التحول إلى بدائل مكلفة وما يترتب على ذلك من فواتير مرتفعة للمستهلك سيكون وقعها مؤلماً على الأفراد والمؤسسات في دول النفط الذين ألفوا الحصول على احتياجاتهم من الطاقة بأسعار تكاد تكون رمزية.
اليوم، المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، لم تعد منتجاً رئيساً للنفط والغاز فحسب، بل انضمت أيضاً إلى قائمة كبار المستهلكين. إذ يبلغ ما يُستخدم محلياً في الوقت الراهن نحو 30 في المائة من إجمالي ما ينتج من الطاقة الهيدروكربونية (النفط والغاز) وبمعدل زيادة سنوية يراوح بين 8 و10 في المائة وهو معدل عال بكل المقاييس. بالطبع جزء من ذلك الاستهلاك ومن تلك الزيادة قد يكون له ما يبرره في النمو الصناعي وبالذات كمادة لقيم feedstock في الصناعات البتروكيماوية، لكن هناك مساحة واسعة للترشيد في قطاع النقل الذي يستهلك نحو 39 في المائة من مجموع كميات النفط والمنتجات المكررة التي تمتصها السوق المحلية، وكذلك الحال في عمليات إنتاج الكهرباء وتحلية المياه التي تستقطع حصة لا تقل في مجموعها عن حصة قطاع النقل أو ما يعادل مليون برميل يومياً بين نفط وغاز.
تلك الملامح العامة لأنماط ومعدلات استهلاك الطاقة في السوق المحلية تدعو بلا شك إلى وضع خارطة طريق للتعامل معها بشكل متدرج في إطار الخيارات المتاحة اقتصادياً، اجتماعياً، وتقنياً. ذلك أن الغاية المستهدفة من وضع تلك الخارطة هي توفير إمدادات طاقة مستقرة لمواطني المملكة واقتصادها لأطول مدى يمكن التنبوء به بإذن الله تعالى. ولعل الخطوة الأولى على ذلك الطريق ترشيد استهلاك الطاقة وهذا يتطلب العمل على عدة محاور من بينها تنظيم وإدارة حجم الطلب demand management، وإعادة هيكلة الأسعار بحيث يُكافأ من يحافظ على الطاقة ويغرم من يفرط فيها ويبسط يده كل البسط، لكن نجاح مثل تلك الخطوة يعتمد إلى حد كبير على نشر ثقافة الطاقة في المجتمع. وكنت قد طرحت في مقال نشرته "الاقتصادية" في 6/3/2004م مقترحاً يدعو وزارة البترول والثروة المعدنية إلى وضع برنامج متكامل لنشر تلك الثقافة على نطاق واسع ابتداء من الوزراء وأعضاء مجلس الشورى ورجال الأعمال حتى طلبة وطالبات المدارس والجامعات لمكافحة الأمية السائدة بخصوص ذلك القطاع وأبجدياته، إذ أن غياب تلك الثقافة يجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل تمرير أي إصلاحات، مهما كانت متواضعة، لإعادة ترتيب السوق المحلية للطاقة.
أما الخطوة الثانية على الطريق نفسه فهي التوجه إلى إحلال مصادر طاقة بديلة للمواد الهيدروكربونية (النفط والغاز) في إنتاج الكهرباء وتحلية المياه. مثل ذلك التوجه سيسهم في الحفاظ على تلك الثروة لاستخدامات أجدى وأكثر نفعاً من إحراقها. من بين المصادر البديلة التي أثبتت فعاليتها في إنتاج الكهرباء الطاقة النووية التي أصبح يعتمد عليها بشكل أساس الكثير من الدول وفي مقدمتها فرنسا التي تحصل على 80 في المائة من كهربائها من خلال ذلك المصدر. لكن إنشاء مثل تلك المحطات يتطلب الكثير من التحضير والمفاوضات المضنية مع الجهات المالكة للتقنية ما يدعو إلى التبكير في الشروع في تلك الخطوة. ولعل في إطار ذلك التحضير نبادر أولاً إلى حجز الأراضي اللازمة لبناء تلك المحطات قبل أن تتداخل مع ملكيات خاصة أو مشروعات أخرى، إذ أن مواقع محطات إنتاج الكهرباء بالطاقة النووية ينبغي اختيارها بعناية تراعي جودة التربة، البعد عن المسارات التاريخية المعروفة للزلازل، القرب من مصادر مياه كافية للتبريد كالمناطق الساحلية مثلاً، البعد عن التجمعات السكانية، والابتعاد بقدر الإمكان عن مصادر الخطر الإقليمية المجاورة.
ثم هناك، وفي سياق مصادر الطاقة البديلة، قضية التقنية سواء كانت تلك المصادر نووية، شمسية، أو غيرها. إذ خلافاً لما قد يتبادر إلى ذهن البعض، من المنتظر أن تكون المملكة من أكبر المستفيدين من تلك التقنيات على المدى الطويل ومن ثم بات من مصلحتها أن تبني لنفسها دوراً مؤثراً في تطوير وصناعة تلك التقنيات. ذلك الدور لا ينبغي أن يقتصر على تمويل الدراسات والأبحاث في تلك المجالات، بل لا بد أن يمتد إلى الاستثمار في الشركات التي تمتلك وتنتج تلك التقنيات، وقد تشكل تلك الاستثمارات جزءاً مهماً في محفظة الشركة التي سبق الإعلان عنها لإدارة الفوائض المالية في الخزانة العامة.
إننا نأمل في أن تشكل الأفكار المطروحة في هذه المقالة مدخلاً لحوار شامل حول أنماط استهلاك الطاقة في السوق المحلية، آليات ترشيدها، ورؤية التعامل معها على المدى الطويل. كما نأمل أن تقود وزارة البترول والثروة المعدنية وشركة أرامكو السعودية مثل ذلك الحوار في الساحة العامة كمنطلق لتوعية الناس بآفاق تلك النعمة التي رزقهم الله بها والتحديات المقبلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي