حين تكون الذاتية أوثق من الموضوعية

[email protected]

ليس عندي شك في أن القنوات الفضائية كسرت الاحتكار الهائل الذي لعبته بضع وكالات أنباء لعقود طويلة حول الأخبار ومصادرها وكيفية قراءتها. فجاءت الفضائيات بمراسليها الذين غالباً ما ينقلون الأخبار حية على الهواء من مواقع الأحداث برؤاهم التي تتباين تبعاً لسياسة أو توجه القناة أو الدولة التي يتبع لها المراسل، ومن هنا تصبح الأخبار أكثر واقعية حين تصبح ذاتية.
قد يبدو هذا الكلام متناقضاً، فكيف تتحرر الأخبار حين تكون ذاتية وليست موضوعية. أقول إن الموضوعية وهم كبير، بل هي فرض لذاتية كبرى على أنها حقيقة جلية. كل الحقائق البشرية هي في الحقيقة ذاتية. ولكن حين نعترف بذاتيتها فإننا نقر بإمكانية التعددية وإمكانية وجود رأي آخر مخالف أو حتى معارض. إن وجود هذا التنوع الكبير في طريقة رؤية الأخبار، وليست هذه دعوة للنسبية الأخلاقية بل هي استلهام للاختلاف البشري الذي يفضي إلى حقائق متنوعة تتزامن وتتعارض وتتعايش أو تتناحر. هذه طبيعة النفس البشرية التي لم تلغها دعاوى الموضوعية حين تصر على رؤية الحقائق والأخبار من منظور واحد يزعم فهم الواقع ويمليه على المتلقين.
اعتمدت فلسفة أفلاطون على آلية السؤال والجواب، والمداخلة والرد، والاختلاف والتوفيق. فجاءت فلسفة متكاملة ما كان لها ذلك لولا أنها بنيت لتوافق الطبيعة البشرية التعددية، فجاءت الحوارات الأفلاطونية لتقود الفكر الإنساني لقرون طويلة نحو آلية التفكير المنهجي، وهو ما بنى عليه تلميذه أرسطو ليشعب المعارف ويؤسس للتفكير العلمي المنهجي الذي انطلقت منه كافة العلوم بتفريعاتها.
وفي التراث الإسلامي تأخذ الذاتية بعداً تشريعياً حين يقرر المشرع أن النية هي الأصل في العمل، وهي التي عليها مدار الحكم على مشروعية العمل من عدمها، ونظراً لاستحالة توحد نيات البشر فإن هذه التعددية وشرعنة الرؤية الذاتية هي أقرب للحقيقة من نظرة أحادية تنسحق تحتها كافة الاختلافات. وتشير حادثة (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) إلى أن الشريعة تقبل الاختلافات في التفسير حتى وإن كانت نابعة من تفسير ذاتي أو فهم خاص طالما أن النية متعلقة بتحقيق الأمر، وعلى ذلك فقد أقر النبي الكريم كلا التفسيرين لهذه الحادثة: فمن فهمها على أنها حث على الإسراع فقد صلى في مكانه، ومن فهمها على أنها نهي عن الصلاة إلا في حي بني قريظة فقد أخر الصلاة حتى وصل إلى الحي. فأقر النبي الكريم كلا الفريقين رغم تباين موقفيهما نظراً لأن نية كل فريق تطبيق الأمر الكريم، فآثر ذاتية التطبيق على موضوعية الأمر، فصح العمل.
وفي العصر الحديث قوض جاك ديريدا كل أوهام الحقائق المطلقة القائمة على مركزية معرفية تتيح للفكر الاعتماد المريح على مكونات ثابتة خارج إطاره يعتمد عليها في إثبات عناصر داخله، للزوم البحث عن ثابت وسط متغيرات، ودائم وسط زائلات. وتصبح الحقيقة عند ديريدا وأتباعه حقائق متنوعة بعدد البشر وتصبح الرؤية الذاتية هي عين الحقيقة.
وفي الفن انهارت الرؤى الجمالية للعصر الكلاسيكي الذي بدأت فلوله تندحر في بداية القرن التاسع عشر، حين بدأت المدرسة الانطباعية تشق طريقاً وعراً في المخيلة الفنية في أوروبا، وخاصة في فرنسا، فبدأ كلود مونيه، ورينوار، ولاحقاً فان جوخ في هولندا. وترتكز الفلسفة الفنية لهذه الحركة على أن الرؤية الذاتية أهم من الموضوع ذاته، وبناءً عليه فهو يرسم ما يراه هو، أو ما يشعر به تجاه الموضوع، وليس يرسم الموضوع. فالانطباع حول المرسوم أهم من المرسوم، وهذا أهم ما يميز الفن عن التصوير الفوتوغرافي. وأتاحت هذه الحركة نشوء كثير من الحركات الفنية التي ميزت نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مثل ما بعد الانطباعية، والتكعيبية.
وبرزت الذات كذلك لتصبح بؤرة التركيز في أدب العصر الرومانسي في القرن التاسع عشر حين ثار وليام وردزوورث وسامويل كوليريدج على الأفكار الكلاسيكية التي نصبت الموضوع محوراً تدور حوله الرؤى، فآثرا حين نشرا ديوان "الغنائيات" أن يجعلا نظرتهما الذاتية، هي المركز لا الموضوع بذاته، فكسبا بذلك عداوة الكلاسيكيين، وتعلق الجيل الجديد من الشعراء، وبدآ حركة فنية دامت قرنين من الزمان وما زالت آثارها الفنية لدى شعراء العالم بما في ذلك شعراء العربية الذين وصلتهم آثار هذه الحركة الفنية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وظلت أفكارها حاضرة بقوة إلى نهايات العقد السادس من القرن العشرين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي