وزارة للبنية التحتية مطلب أساس للتنمية المستدامة

تبنى منتدى الرياض الاقتصادي في دورته الثالثة، دراسة لأهمية البنية التحتية وضرورة وضع استراتيجيات لسرعة تنفيذها، وكان من أهمها التوصية بإيجاد وزارة للبنية التحتية نظرا لأهميتها، ولتضع حدا لما تعاني منه معظم مناطق المملكة من نقص شديد في وصول البنية التحتية من شبكات المياه والصرف الصحي والطرق وغيرها، إضافة إلى عدم وجود التنسيق بين مقدمي الخدمة، فبعد انتهاء حفريات الأول يأتي الآخر لحفر الطرق داخل الأحياء، ما يؤدي إلى مضايقات للسكان وإزعاجهم. فالبنية التحتية تمثل العصب الشوكي وشريان الحياة لجميع أنشطة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمعات المتحضرة، ودونها لا يمكن تحقيق أي تطور أو رفاهية حضارية للمجتمع، وهذه الحقيقة تؤكدها الدراسات والأبحاث القديمة والحديثة، كما تؤكدها الرؤية الواقعية والراشدة لما تؤدي إليه خدمات البنية التحتية من دعم وتكامل وربط لمقومات الاقتصاد.
وقد أوضحت الدراسة التأثير الإيجابي لتوافر البنية التحتية وخاصة الاتصالات والطرق، فليس من المصادفة أن تكون الصين وسنغافورة وماليزيا وتايلاند، التي استثمرت جزءا كبيراً من الناتج الإجمالي المحلي في تطوير خدمات البنية التحتية، أن تكون في مصاف أفضل الدول أداء بين اقتصادات العالم اليوم. وليس من المستغرب ما نراه من اهتمام معظم دول العالم المتقدم بها وتنافسهم للاستثمار فيها، حيث تنفق الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أكثر من 150 مليار دولار سنويا. كما تنفق كندا 40 مليار دولار سنويا لإعادة تأهيل البنية التحتية في ولاياتها المختلفة. وتعلق الدول المتقدمة على ذلك أهمية كبرى كوسيلة لتطوير الاقتصاد الوطني وزيادة كفاءة الإنتاج الصناعي، خاصة أن ما استثمرته تلك الدول قبل 50 عاماً على بناء شبكات الطرق السريعة، قد عاد عليها بأرباح وعوائد مضاعفة.
وتتضح أهمية تنفيذ خدمات البنية التحتية في دول العالم الثالث والمناطق الريفية، حيث أدى تنفيذ جزء من شبكة الطرق الريفية في الهند إلى ارتفاع الناتج الإجمالي للمناطق الريفية بمقدار 7 في المائة. وفي كوستاريكا أدى تنفيذ مشروع كهرباء ريفي إلى زيادة عدد شركات الأعمال الكبرى من 15 إلى 86 شركة خلال فترة وجيزة. كما أن تنفيذ طريق ريفي في المغرب العربي لم يؤد إلى زيادة الإنتاج الزراعي فقط، بل ساعد على مضاعفة أعداد الملتحقين بالتعليم في المدارس والمعاهد وزيادة زيارات المواطنين الخدمات الصحية.
ويوصي البنك الدولي بأن تكرّس الدول منخفضة الدخل ما يعادل 6 في المائة من ناتجها المحلي لتطوير خدمات البنية التحتية، بينما يوصي الدول متوسطة الدخل أن تصل النسبة إلى 3.8 في المائة.
يلاحظ أن الدول التي تعاني من نقص واضح في خدمات البنية التحتية، مثل إندونيسيا والفلبين، قررت في الفترة الأخيرة أن تنفق كل منهما ما يقارب 50 مليار دولار للسنوات الخمس المقبلة في هذه الخدمات، على أن يشارك القطاع الخاص في حدود 44 في المائة من كامل الإنفاق. كما أعلنت أخيرا ماليزيا خطتها التاسعة والطموحة لتنفق خلالها 406 مليارات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، على أن ينفق معظم المبلغ للرفع من مستوى خدمات البنية التحتية الحالية.
كما تشير الدراسات إلى أن المملكة والعالم كله يتحضر بسرعة كبيرة، وأن أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية أصبحوا يعيشون في المدن. وأن هذه النسبة في ازدياد ليتحول أكثر من 85 في المائة من سكان الكرة الأرضية إلى العيش في المدن خلال 20 عاماً المقبلة، وهي ظاهرة نشهدها في المملكة من الهجرة الكبيرة من الأرياف للمدن، ما أدى إلى تضخم المدن سكانيا في الوقت الذي لا تستطيع البنية التحتية استيعابه، لذلك فإن التوجه الدولي يؤكد ضرورة التحسب والتخطيط المسبق لذلك.
وقد شوهد خلال القرن الماضي أفول ونقص كبير في مدى ما تنفقه الدولة في تمويل وتشييد البنية التحتية، ما اضطرها إلى تشجيع القطاع الخاص للمشاركة في تطوير الخدمات، وأنجح مثال هو قطاع الاتصالات في المملكة، وذلك بعد نجاح الخصخصة والثاتشرية في بريطانيا ثم في بقية أوروبا وأستراليا، لذا أصبح هذا التوجه أكثر إغراءَ للقطاع الخاص للاستثمار فيه كنوع جديد من الأنشطة المجدية استثمارياً وخاصة على المدى الطويل.
وقد أبدع عالميا في ذلك قطاع البنوك ومؤسسات التقاعد والتأمينات الاجتماعية، التي هي الأقدر على توفير الاستثمار طويل المدى في هذا المجال، وما تجنيه من فوائد مادية إيجابية من هذا النوع من الاستثمار الذي يساعد على تحضر المجتمع, وبالتالي يعود ريعه الإيجابي على تلك المؤسسات.
وقد تطورت هذه الظاهرة أخيرا بظهور سوق ثانوية تبيع من خلالها تلك البنوك والمؤسسات المالية المختلفة، ما لديها من سيولة لجهات وصناديق استثمارية. وهي لا تلغي دور الدولة، بل تسمح لها بالاحتفاظ بالتحكم في السياسات العامة ووضع المعايير والإشراف والمتابعة، بينما يتم تحويل المخاطر الاقتصادية إلى القطاع الخاص وتكسبه نوعاً من الكفاءة والرشد المهني، إضافة إلى توفير فرص العمل وتطوير الموارد البشرية للدولة. وتتم ضمن أطر ومحددات يحكمها ويربطها اتفاقيات ومذكرات تفاهم ووفق مخططات شاملة حالية ومستقبلية وضوابط تقنية وفنية متكاملة لتخطيط وتطوير وتنفيذ وتشغيل وصيانة خدمات البنية التحتية على مستوى الدولة.
ويجب علينا أن نعي أن المعايير التقنية والعمرانية لمدى تغطية البنية التحتية للمناطق العمرانية تختلف من مجتمع لآخر، إذ تتبنى كل دولة معايير ومقايسات مختلفة تتناسب مع ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وعاداتها وتقاليدها. فبينما تخطط الولايات المتحدة للبنية التحتية للمواصلات على أساس أن لديها 750 سيارة لكل ألف شخص، يلاحظ أن المملكة المتحدة تخطط على معدل 500 سيارة. وتبقى الصين على معدل 50 سيارة. ومع أن اليابان أصغر مساحة وسكاناً من الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن لديها شبكة من القطارات السريعة تصل في مجموع أطوالها إلى ألفي كيلو متر، بينما الأخرى لا يصل فيها طول تلك الشبكة إلى 300 كيلو متر، في حين تتعدى الولايات المتحدة اليابان في طول شبكة القطارات التقليدية العادية.
وتبرز أهمية الاستمرار في تخطيط وتطوير وتمويل وتنفيذ خدمات البنية التحتية في أنها تساعد على زيادة الناتج الاقتصادي بطريقة مباشرة من خلال زيادة فاعلية وإنتاجية رأس المال وزيادة جاذبيتها للاستثمار الأجنبي ونمو الاقتصاد الوطني وزيادة فاعليته المالية.
وقد تبنى منتدى الرياض الاقتصادي الأخير دراسة مهمة للمردود الإيجابي لتوفير خدمات بنية تحتية متكاملة بأمثلة من تطوير خدمات البنية التحتية في مدينتي الجبيل وينبع، وإلى ما تم التوصل إليه في الولايات المتحدة من تقييم لمردود تطوير خدمات البنية التحتية الإيجابي على الاقتصاد الوطني، وهي حقائق مبنية على معلومات متراكمة فيما يتعلق بتطوير البنية التحتية الأساسية. وهذا التوجه والاهتمام بالبنية التحتية ودورها في مساندة التنمية المستدامة يدعو إلى التساؤل عن مدى توافر هذا الاهتمام في المملكة العربية السعودية، ومدى تكامل البنية التحتية فيها، وأثر ذلك في ما تواجهه المملكة من منافسة متزايدة من الدول الأخرى لجذب واستقطاب الاستثمارات الأجنبية، بكل ما يرتبط بذلك من تقنيات ومعرفة بالأسواق التي تساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلع إليها الدول في العالم الثالث خاصة.
لقد خرج المنتدى بالعديد من التوصيات التي لا بد من وضعها على طاولة النقاش، وأهمها ضرورة إيجاد وزارة للبنية التحتية وبنك مستقل لتمويلها، والبدء في موضوع نفق يضم وينسق جميع الخدمات تحت الأرض بدلا من الحفريات المتكررة.
كما دعا المنتدى إلى مراجعة وتحليل الوضع الحالي لما آلت إليه خدمات البنية التحتية في المملكة، ومحاولة التعرف على مشكلات سياسات التخطيط والتطبيق الحالي، وما يتبع ذلك من نتائج وإخفاقات وذلك لكي يتم تشخيص المشكلة ووضع الحلول. فمتى نرى تفعيل توصيات المنتدى والاستراتيجيات والآليات التي وضعها لتخطيط وتنفيذ وتمويل لخدمات البنية التحتية بهدف ضمان الوصول إلى تنمية مستدامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي