"لا تُوعوا فيوعى عليكم!"

[email protected]

من عجائب القدر، أن يأتي على بلادنا حين من الدهر يتدهور فيه وضع الأفراد المعيشي بينما ترتقي مؤشرات اقتصادهم الكلي قوة ومتانة ! ولا قيمة لقوة المؤشرات الكلية إذا لم تنعكس على تحسين مستوى الأفراد. لقد أدى ضياع مدخرات الناس في مأساة انهيار سوق الأسهم قبل عامين، ومعاناتهم اليوم من موجة الغلاء القاسية، لتدهور خطير في وضع الطبقة المتوسطة ناهيك عن الطبقة الفقيرة. إن تدهور مستوى الطبقتين المتوسطة والفقيرة مؤشر لا يبشر بخير، فالأولى دعامة الاقتصاد في أي مجتمع، والثانية مصدر البركة والاستقرار (هل تنصرون إلا بضعفائكم). ولذلك تابع المراقبون بقدر عال من الترقب والقلق الإجراءات الاقتصادية التي يمكن أن تتبناها السلطات الاقتصادية لوقف هذا الجموح الجنوني في الأسعار، ووضع حد لتدهور قيمة الريال داخليا (بفعل التضخم)، وتدهور قيمته خارجيا ( بفعل هبوط سعر صرفه) من أجل حماية القوة الشرائية لدخولهم الثابتة ووقف تدهور مستوى معيشتهم.
يستخدم عادة لمواجهة تقلبات النشاط الاقتصادي مجموعة من أدوات السياسات الاقتصادية، وفي مقدمتها السياستان النقدية والمالية. لكن من المهم عند استخدامهما أمرين: توقيت السياسة المختارة، ومدى فاعلية الإجراءات المتبعة. وفيما يتعلق بالتوقيت، أعتقد أننا نعاني بطئا وترددا في اتخاذ القرارات في الوقت الملائم. فالمشاهد أن الأحداث الاقتصادية تسبقنا قبل أن نسبقها، كما نفتقر إلى القدرة على استشراف تطور مسار الأحداث الاقتصادية وتقدير مآلتها تقديرا مبكرا وسليما.
أما فيما يتعلق بفاعلية الإجراءات الاقتصادية، فهناك خشية من أن فاعلية القرارات الـ 17 التي صدرت أخيرا، من أجل كبح جماح موجة الغلاء السائدة سيكون محدودا بالنظر لما تدل عليه المؤشرات الاقتصادية العالمية والمحلية من أن موجة الغلاء لم تبلغ أقصاها بعد! ولذلك فالمهمة لم تنته ونحن بحاجة إلى مراقبة لصيقة جدا لتتبع مدى فاعلية هذه الإجراءات في كبح جماح الغلاء ومنع استمرار تدهور مستوى معيشة الناس. وعلينا استنفار جهودنا لتبني إجراءات اقتصادية إضافية لمواجهة الموقف بسرعة إذا تطلب الأمر.
وعلينا أن نتذكر أن جوانب النظام الاقتصادي كلٌ لا يتجزأ. وإذا لم نسرع بإصلاح الأسس التي يقوم عليها نظامنا فسنصادف مزيدا من المتاعب والمشكلات الاقتصادية التي لن تجعل لأية إجراءات اقتصادية تأثيرا يذكر. إن فاعلية النظام الاقتصادي إنما تقاس بمدى نجاحه في تحقيق هدفين: هما الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. وقد بينت التجارب المؤكدة أن إطلاق العنان للمنافسة بين الأفراد والمؤسسات أثناء ممارستهم للأنشطة التجارية، وعدم مزاحمة الحكومة لهم، بل يقصر عملها على التوجيه والتنظيم والتحقق من حرية تفاعل قوى العرض والطلب في مختلف الأسواق، سيضمن إلى حد بعيد تحقيق هدف كفاءة النظام المتمثل في ارتفاع جودة المنتجات والخدمات وانحسار تكاليفها. إن الاختناقات والإخفاقات التي يعانيها اقتصادنا في قطاع الإسكان والتعليم وخدمات النقل الجوي على سبيل المثال، تحتاج إلى إجراءات حاسمة وسريعة. لقد ظل قطاع الإسكان، الذي من الممكن أن يكون قطاعا مروجا ومحفزا لبقية قطاعات الاقتصاد، يئن تحت وطأة مشكلات هيكلية وتنظيمية مزمنة، سواء تعلق الأمر بالتمويل أو التطوير أو وقوعه تحت أسر السعار الضاري لحب الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي لدى بعض النافذين، بما يفوق حاجاتهم وحاجات أولادهم وأحفادهم!! أما في مجال خدمات النقل الجوي فقد وجدنا أنفسنا بدلا من فتح باب المنافسة نستبدل محتكرا بمحتكر آخر!!
هذا ما كان من أمر الكفاءة الاقتصادية، أما فيما يتعلق بجانب العدالة الاجتماعية، فإن النظام الاقتصادي الجيد يحتاج بجانب ضمان حرية الأسواق والمنافسة، إلى آليات وترتيبات وأنظمة تضمن عدالة توزيع الموارد والثروات والفرص التجارية بين أفراد المجتمع، وهذا لن يتحقق إلا بكسر الاحتكارات والقضاء على الفساد للمحافظة على سلامة المجتمع واستقراره. وأمامنا الآن فرصة لطرح حصة الشريك الأجنبي في البنك السعودي الهولندي، المعروضة للبيع منذ أكثر من ستة أشهر، لاكتتاب عامة الناس من أجل توسيع الملكيات في المجتمع، وأن نحذر من ترتيب يفضي إلى زيادة ثراء الأثرياء. ثم حبذا لو دمج هذا البنك في بنك الإنماء للاستفادة من بنيته التحتية في دعم بنك الإنماء الجديد.
الزمن يتغير بسرعة وعلينا قبول التغيير ومجاراته قبل أن يصبح ثمن الإصلاح فادحا ومكلفا. لا توعوا فيوعى عليكم!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي