إذن.. المشكلة ليست في التمويل!
قبل عشر سنوات عندما كانت موارد الدولة شحيحة وبالكاد تسد نفقات الباب الأول (الرواتب والأجور الثابتة)، كان لدى نسبة لا بأس بها من المسؤولين الحكوميين عذر جميل، وهو قلة الموارد. وتحت ظل هذا العذر الأنيق تفيأ البيروقراطيون ظلال الكسل، وقلنا صبرا جميلا، فلكل هم فرج ولكل ضيق مخرج، ثم جاءت سنوات الوفرة المالية وفيها أغيث الناس.
الآن توافر التمويل ووضع الميزان ورجحت كفة الاحتياجات، والملك عبد الله سن سنة حسنة، قسم الفوائض من رأس السنة، ففرض لكل منطقة نصيبا معلوما، والوزارات المختنقات فاجأها توجه الدولة فقيل لهم: لكم ما طلبتم أضعافا مضاعفة، فأروني ماذا أنتم فاعلون؟!
في الوضع القائم تواجه (حالة دراسية) حقيقية لأوضاع الجهاز الحكومي، فقد اتضح لنا أنه فاقد للأولويات غير مستعد للمفاجآت حتى لو كانت سارة، فمثلا عندما أمر الملك بـ (9) مليارات ريال للتعليم، حينئذ كانت مفاجأة للقوم حتى أسقط في يدهم.. ماذا يعملون بهذا المدد الكبير، وكنا نظن أن المشاريع المدروسة جاهزة والبرامج معدة والأولويات مفروزة والأهداف والمعالم التي تقود للتطوير واضحة في رائعة النهار، فلسنوات ظللنا نسمع أن اللجان تدرس وفرق العمل تحلل وتخطط، وكنا نعتقد أن الموارد المالية متى ما توافرت فإن ماكينة العمل الدؤوب سوف تنطلق.
ليس هناك موضوع تم التخاطب والتحاور والتشاور بشأنه مثلما فعلنا بالتعليم، فالإجماع تحقق منذ سنوات على الأمور الحيوية التي يحتاج إليها هذا القطاع. والقلق الاجتماعي تجاه التعليم أعلن نفسه عبر ظاهرة تطورت في السنوات الماضية وهي الهجرة الإقليمية التعليمية، فقد وجدنا من ذهب إلى العمل في مناطق قريبة وبعيدة، والسبب المعلن هو البحث عن (تعليم أفضل) للأولاد. وهذا القلق من الآباء والأمهات على مستوى التعليم هو قلق موضوعي وإيجابي ويعكس تطورا نوعيا لمجتمعنا وهو ثمرة الاستثمار المكثف الذي تبنته الدولة في التعليم لسنوات طويلة، فالجيل الذي حصل على أرقى التعليم وذاق حلاوته هو الآن يريد لأولاده ما لمسه بنفسه وتمتع به، لذا علينا الثناء على هذه التوجهات واستثمارها، وهو ما لم نفعل .. وفعله واستثمره جيران لنا.
أيضا لدينا مثال آخر على أن التمويل ليس مشكلة، نجده في الموارد التي توافرت للقضاء، حيث أمر الملك عبد الله باعتماد (7) مليارات ريال لتطوير هذا المرفق المهم الذي كنا نسمع لسنوات أنه يعاني الاختناقات، فكما هو الحال في التعليم اتضح أن الأولويات والأهداف والخطط بعيدة المدى للنهوض بهذا المرفق لم تكن جاهزة.
حتى نكون موضوعيين في الطرح، الأمانة العلمية والأخلاقية تتطلب الإشارة إلى أن التعليم والقضاء ليسا هما ما يعانيان عدم توافر البرامج الجاهزة والخطط الواضحة، وهما وردا كمثال وليس استثناء، فالوضع العام في مجتمعنا يقدم أمثلة عديدة، وعدم الجاهزية هو خاصية ثقافية تجدها حتى في شركات القطاع الخاص ومؤسساته، وحتى في مظاهر حياتنا الاجتماعية!
ثمة مشاكل عديدة نواجهها على مستوى مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع، ويبدو ظاهريا أن حل هذه المشاكل متوقف على توافر الموارد المالية، أو هكذا كان يُقال لنا، وكنا نسمع ثم نصمت مطمئنين من باب تقديم حسن الظن، ولكن الوفرة المالية الجارية بين أيدينا كشفت لنا أن مشكلتنا ليست في التمويل، إنها في (الإدارة الحكومية)، فالجهاز الحكومي أصبح (الحصان الذي يقف أمام العربة ولا يقودها) فقد كبر هذا الجهاز ونحن، ولله الحمد، نعمل على تكبيره عبر الهيئات والمجالس، وعبر تأخر أو شبه توقف برنامج التخصيص، رغم أنه من المشاريع الحيوية لمجتمعنا.. وأخيرا، علينا أن نطرح هذه الفرضية العلمية: هل الجهاز الحكومي (عائق) للتنمية أم قائد لها؟