"عذرا فضيلة الشيخ فالقضاة لا يتساهلون "
قرأت رأيا فقهيا للشيخ صالح بن سعد اللحيدان في جريدة "الوطن" بتاريخ 21/1/1429هـ في تصريح له للجريدة يتعلق بإخراج المستأجرين من قبل المؤجرين, وانتقد فيه القضاة على اعتبار أنهم يتساهلون في الحكم للمؤجرين من غير مراعاة لحال المستأجرين, والحقيقة أن التقرير المكتوب في الصحيفة لم تكن صياغته واضحة حيث كان هناك تداخل بين موضوعين, الأول: يتعلق بضرورة الصبر على أذى الجار وأهمية نصحه, والتذكير بالنصوص الواردة في هذا الخصوص, والتأكيد على ما قرره الفقهاء بهذا الخصوص, وهو كلام جيد من فضيلته ولا نقاش فيه.
أما الموضوع الثاني فهو المتعلق بإخراج المستأجرين, ومما ورد في تصريحه ما يلي: "أكد الشيخ صالح بن سعد اللحيدان، أن كثرة شكاوى أصحاب العمائر ضد جيرانهم لعدم تمكن بعضهم من تسديد الإيجارات ظاهرة اجتماعية خطيرة ومخالفة للشريعة الإسلامية.
وأضاف لـ"الوطن" أن هذه الظاهرة تلقى تساهلا من القضاء والمحاكم، مشيرا إلى أن الواجب على القضاء تطبيق الشريعة الإسلامية لقوله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) بحيث يعطي المستأجر فرصة للتسديد، وعدم الحكم عليه بالدفع في حالة تأكد للقاضي عدم مقدرته على ذلك", ومما ورد في التصريح أيضا:"... وقال اللحيدان أما وأن الجار لم يصدر منه أذى وأن هناك أسبابا لتعثره في تسديد الإيجار، فلا يجوز لصاحب العمارة تقديم شكوى ضده أو إخراجه لهذا السبب، وعليه أن يعطيه فرصة للتسديد أو تحديد وقت زمني للتسديد وعدم اللجوء إلى الجهات الرسمية ويجب على القضاة في المحاكم في هذه الحالة إلزام صاحب المبنى بالتأجيل والصبر على الجار حتى يتمكن من تسديد المستحقات عليه".
وقبل التعليق على رأي فضيلته لابد من القول إن صياغة بعض الآراء والتصريحات قد لا تكون دقيقة من قبل المحرر مما قد يغير بعض الشيء في رأي القائل , وإلا فلا أشك أن فضيلته - وهو من المختصين بالجوانب القضائية - يخفاه ما تقوم به المحاكم بهذا الخصوص , وهو ما سأشير إليه لاحقا .
ومناقشة لما ورد في كلام فضيلته أشير إلى ما يلي:
أولا: من المتفق عليه أن المعسر وهو غير القادر على سداد ما في ذمته للغير – سواء كان مقابل أجرة أو غيرها - فلا تجوز ملاحقته والتضييق عليه استنادا لقوله تعالى:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ", ولا بد من التأكيد أن ذلك في المعسر.
ثانيا: يثبت الإعسار إما بإقرار الدائن بذلك, أو بحكم شرعي يصدر من المحكمة, وفي هاتين الحالتين فلا يجوز للمؤجر ملاحقة المستأجر, وأما دعوى المستأجر ذلك فغير كاف في الكف عن ملاحقته لأن الكثير من المستأجرين يلجأون إلى ذلك, والمعاناة في الحقيقة من المستأجرين أكثر من المؤجرين فالمؤجر يطالب بحقه حيث إنه مستثمر فلا ينتظر منه أن يتعامل مع المستأجرين بحسب أقوالهم بل سوف يطالبهم بحقوقه لديهم, والمشاهد من خلال الواقع ومن خلال الأحكام القضائية أن الظلم من المستأجرين هو الأصل, بل لا يتصور أن يذهب المؤجر إلى القضاء ليطالب المستأجر بإخلاء المسكن أو بالأجرة إن لم يكن صاحب حق لمعرفته بطول إجراءات مثل هذه القضايا.
ولهذا فمن غير المفهوم تعبير فضيلته بأن كثرة شكاوى أصحاب العمائر- المؤجرين- ضد المتخلفين عن السداد تعد ظاهرة اجتماعية خطيرة ومخالفة للشريعة الإسلامية, مع قناعتي أن فضيلته يقصد ما إذا كانوا معسرين, ولكن لابد من توضيح ذلك والإشارة إلى مماطلة الكثير من المستأجرين عن السداد, وهو في الحقيقة الظاهرة الخطيرة والمخالفة للشريعة الإسلامية.
ثالثا: أما مناقشة فضيلته للجانب القضائي للموضوع فلم يكن دقيقا بل ولا صحيحا, وأقصد من ذلك بالتحديد: تقريره أن القضاة يتساهلون في التعاطي مع الظاهرة – كما يسميها فضيلته- بحيث إنهم يلزمون المستأجرين بالسداد ولا يراعون أنهم غير قادرين على ذلك ويعتبر هذا تساهلا منهم, وهذا كلام غريب جدا, فالكثير يرون عكس هذا تماما, وهو أن القضاة يتساهلون مع المستأجرين على حساب المؤجرين, وكلا الطرفين برأيي مخطئ, فلا هم يراعون المستأجر ولا المؤجر بل هم ملتزمون بإحكام وإجراءات فقهية ونظامية فما نتج عنها يحكمون به – سواء كان في صالح المؤجر أو المستأجر -, والحديث حول هذه الظاهرة ذو شجون وقد فصلت الكلام فيه من النواحي الفقهية والنظامية والقضائية في أربع مقالات في هذه الزاوية.
وأما ما يخص ما قرره فضيلته بعدم مراعاة القضاة لحال المستأجرين حين الحكم عليهم وإلزامهم بسداد الأجرة, فإن كان قصد فضيلته أن القضاة لا يأخذون بدفوع المستأجرين حال عرض الدعوى عليهم من عدم قدرتهم على السداد: فهذا صحيح, ولكن أي تساهل في هذا بل هذا هو الشرع, فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" لو أُعطي الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم", ولو لم يعمل القضاة بذلك لضاعت الحقوق, إذاً لم يبق إلا ما يقوم به القضاة, وهو: أنهم يعرضون دعوى المستأجر – بعدم قدرته على السداد – على المؤجر فإن أقر بذلك فإنهم يلزمون المؤجر بالإمهال لنص الآية, فإن لم يقر فإنهم يحكمون بالإلزام, ولا ينظرون في دعوى الإعسار بل يرجئون ذلك إلى حين مُطالبة المستأجر بالسداد فإذا لم يقدر بعد إلزامه بالطرق النظامية يحال أمره للنظر في دعوى إعساره, وتنظر قضيته وفقا لأحكام الإعسار الفقهية وما نص عليه نظام المرافعات الشرعية ولائحته التنفيذية في المواد ( 230-233 ), كان الله في عون القضاة.