عقوبة الإعدام في الشريعة الإسلامية وقرارات الأمم المتحدة (2 من 2)

أوضحنا في الجزء الأول من هذا المقال موقف الشريعة الإسلامية من عقوبة الإعدام في جرائم القتل، وأن الشريعة السمحة فرضت لجريمة القتل نوعين من العقوبات، عقوبة الإعدام عند عدم عفو أولياء الدم، وأية عقوبة تعزيرية أخرى عند العفو.
ونسلط هنا بعض الضوء على موقف الشريعة السمحة من عقوبة الإعدام على الجناة في الجرائم الكبرى الأخرى مثل جرائم الحرابة التي من صورها المعاصرة الجرائم الإرهابية، فالجاني في هذه الجرائم هو في الواقع، كما يقول فقهاء الشريعة، معتد على الأمة، بل على حق الحياة الذي أوجبت الشريعة الإسلامية احترامه، يقول الله تعالى في كتابه الكريم "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا أن يُقتّلوا أو يُصلّبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم. إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله عفو رحيم".
ولفقهاء الشريعة الإسلامية ثلاثة مذاهب في فهم هذه الآية الكريمة، أوجزها الدكتور محمد المسير الأستاذ في جامعة الأزهر، في مقاله (حق الحياة.. وحق القصاص) والمنشور في مجلة الهلال عدد نيسان (أبريل) 2007، وذلك على النحو التالي:
1 ـ قول سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي إن الإمام مخير بين أن يقتلهم ويصلبهم أو يقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف أو ينفيهم من الأرض، يفعل من ذلك ما ينفع الناس ويردع المفسدين.
2 ـ قول مالك وطائفة من فقهاء المدينة إن الأحكام مرتبة باختلاف صفاتهم، فمن كان منهم ذا رأي وتدبير قتله الإمام ولم يعف عنه، ومَنْ كان ذا بطش وقوة، قطعت يده ورجله من خلاف، ومن لم يكن ذا رأي ولا بطش عزر وحبس.
3 – قول ابن عباس والحسن وقتادة والشافعي وأحمد بأن الأحكام مرتبة باختلاف أفعالهم فمن قتل وأخذ المال قُتل وصُلِب، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أظهر السلاح ولم يأخذ المال ولم يقتل عزر بنفيه من بلده إلى بلد آخر.
فالغلظة في عقوبة هذه الجرائم ـ كما يقول فقهاء الشريعة ـ تتكافأ مع الغلظة في الجريمة لا من حيث مقدار الفعل الذي وقع منهم، بل من حيث الفساد الذي أوجدوه، والذعر الذي أذاعوه والاضطراب الذي استولى على نفوس الناس، ولذلك فإن الرفق بهؤلاء الجناة هو القسوة بعينها.
نعود مرة أخرى إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر خلال دورتها التي عقدت في سنة 2007 والذي يدعو إلى تجميد تنفيذ أحكام الإعدام تمهيدا لإلغاء هذه العقوبة نهائيا، فنقول إن هذا القرار لم يأت بأمر جديد لأن الجمعية العامة للأمم المتحدة سبق أن اعتمدت بقرارها الصادر بتاريخ 15/12/1989، البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بهدف إلغاء عقوبة الإعدام. والقرار الجديد وإن كان غير ملزم للدول الأعضاء، إلا أنه في تقديري يعتبر قرارا باطلا لأنه يتدخل في صميم الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، حيث قررت الفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة بأنه (ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطات الداخلية لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي على الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق..)، ولا شك أن للدول الأعضاء الحق المطلق في تشريع القوانين الجنائية شريطة عدم الإخلال بالقواعد الأساسية لحقوق الإنسان والمتفق عليها دوليا. ولذلك فقد أصابت جريدة "الاقتصادية" كبد الحقيقة في افتتاحية عددها الصادر بتاريخ 30/12/2007 بعنوان (عقوبة الإعدام بين الإلغاء والإبقاء) عندما قالت (إن موضوعات التشريع الجنائي العقابي وقوانين الأحوال الشخصية ليست ميدانا ملائما لتوحيد أحكامها في دول العالم بخلاف تشريعات التجارة والاستثمار والعمل والتي هي تعبير عن المصالح المالية والاقتصادية وليست انعكاسا لفلسفة الشرائع والأديان وخصوصية المجتمعات، وأن من المستبعد أن تكون هناك نتائج متفق عليها حول إلغاء عقوبة الإعدام حيث تستقل كل دولة بما تراه محققا لأمنها الوطني والذي هو مسؤوليتها وحدها وهي الأقدر على تحقيقه والحفاظ عليه).
وإذا كانت عقوبة الإعدام مسألة تدخل في صميم الاختصاص التشريعي لكل دولة إلا أن ذلك لا يمنع من وضع المعايير الدولية التي تكفل الحد الأدنى من الحماية القانونية للمواجهين لهذه العقوبة، ولذلك لم يكن أمرا نكرا، أن تدون هذه المعايير في ثلاث وثائق دولية، فالوثيقة الأولى المسماة (العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية) والصادرة بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 16/12/1966 تطرقت إلى الضمانات الواجب توافرها بشأن الحكم بعقوبة الإعدام وتنفيذها حيث قررت الفقرة (2) من المادة (6) من هذا العهد الدولي بعدم جواز الحكم بعقوبة الإعدام في البلاد التي لم تلغ هذه العقوبة إلا جزاء لأشد الجرائم خطورة وفقا للتشريع النافذ وقت ارتكاب الجريمة وغير المخالف لأحكام هذا العهد ولاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، كما لا يجوز تطبيق هذه العقوبة إلا بمقتضى حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة، وقررت الفقرة (4) من المادة نفسها حق كل شخص يحكم عليه بالإعدام التماس العفو الخاص أو إبدال العقوبة ويجوز منح العفو العام أو العفو الخاص أو إبدال عقوبة الإعدام في جميع الحالات، كما لا يجوز الحكم بعقوبة الإعدام وفقا للفقرة (5) من المادة ذاتها على جرائم ارتكبها أشخاص دون الثامنة عشرة من العمر وألا تنفذ هذه العقوبة في الحوامل. والوثيقة الثانية في هذا الشأن صادرة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي بتاريخ 25/5/1984 بعنوان (ضمانات تكفل حماية حقوق الذين يواجهون عقوبة الإعدام). والضمانات التي نصت عليها هذه الوثيقة هي كما يلي:
1 ـ في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام، لا يجوز أن تفرض عقوبة الإعدام إلا في أخطر الجرائم على ألا يتعدى نطاقها الجرائم التي تسفر عن نتائج مميتة أو غير ذلك من النتائج البالغة الخطورة.
2 ـ لا يجوز أن ترفض عقوبة الإعدام في حالة جريمة ينص القانون، وقت ارتكابها، على عقوبة الموت فيها، على أن يكون مفهوما أنه إذا أصبح حكم القانون يقضي بعد ارتكاب الجريمة بفرض عقوبة أخف، استفاد المجرم من ذلك.
3 ـ لا يحكم بالموت على الأشخاص الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشرة وقت ارتكاب الجريمة ولا ينفذ حكم الإعدام في الحوامل أو الأمهات الحديثات الولادة ولا في الأشخاص الذين أصبحوا فاقدين لقواهم العقلية.
4 ـ لا يجوز فرض عقوبة الإعدام إلا حينما يكون ذنب الشخص المتهم قائما على دليل واضح ومقنع لا يدع مجالا لأي تفسير بديل للوقائع.
5 ـ لا يجوز تنفيذ عقوبة الإعدام، إلا بموجب حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة بعد إجراءات قانونية توفر كل الضمانات الممكنة لتأمين محاكمة عادلة، مماثلة على الأقل للضمانات الواردة في المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بما في ذلك حق أي شخص مشتبه في ارتكابه جريمة يمكن أن تكون عقوبتها الإعدام أو متهم بارتكابها في الحصول على مساعدة قانونية كافية في كل مراحل المحاكمة.
6 ـ لكل من يحكم عليه بالإعدام الحق في الاستئناف لدى محكمة أعلى، وينبغي اتخاذ الخطوات الكفيلة بجعل هذا الاستئناف إجباريا.
7 ـ لكل من يحكم عليه بالإعدام الحق في التماس العفو، أو تخفيف الحكم، ويجوز منح العفو أو تخفيف الحكم في جميع حالات عقوبة الإعدام.
8 ـ لا تنفذ عقوبة الإعدام إلى أن يتم الفصل في إجراءات الاستئناف أو أي إجراءات تتصل بالعفو أو تخفيف الحكم.
9 ـ حين تحدث عقوبة الإعدام، تنفذ بحيث لا تسفر إلا عن الحد الأدنى الممكن من المعاناة.
والوثيقة الدولية الثالثة كانت بعنوان (مبادئ المنع والتقصي الفعالين لعمليات الإعدام خارج نطاق القانون والإعدام التعسفي والإعدام دون محاكمة) أوصى بها المجلس الاقتصادي والاجتماعي في قراره الصادر بتاريخ 24/5/1989 حيث أوصت هذه الوثيقة بأن تقوم الحكومات في إطار تشريعاتها وممارستها الوطنية بوضع الإجراءات الوقائية التي تمنع عمليات الإعدام خارج نطاق القانون والإعدام التعسفي والإعدام دون محاكمة، وتجريم هذه العمليات ووضع العقوبات المناسبة على مرتكبيها كما حددت هذه الوثيقة الإجراءات اللازمة بشأن كيفية إجراء التحقيق العاجل والنزيه عند كل اشتباه بحدوث أي عملية من هذه العمليات. والإجراءات القانونية الواجب اتباعها بشأن محاكمة الأشخاص الذين أثبت التحقيق أنهم اشتركوا في هذه العمليات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي