المركنتليه ـ زمن التجار في الصحة

[email protected]

تنسب المركنتلية Mercantilism إلى كلمة مركنتي الإيطالية وتعني التاجر، والمركنتلية أو عصر التجار هي حقبة اقتصادية مرت على العالم وانقضت بظهور الثورة الصناعية وكتاب ثروة الأمم لأبي الرأسمالية آدم سميث. في زمن التجار لا معنى إلا للثروة والذهب، وكل شيء تقدر قيمته بقدرته على خلق المال والنقد وأن قيمة أي مشروع ليس بما ينتجه أو ما يقدمه من خدمات للمجتمع والإنسانية بل بمدى قدرته على تكديس الذهب وتنميته للثروات. في تلك الفترة انتشر الاستعمار واستغلال الأمم وطالب التجار بحماية الاحتكار واعتباره حقا مشروعا. في عصر التجار لا معنى للسعر العادل للسلع ولا وجود للمنافسة الحقيقية التي تؤثر في ثرواتهم. من هنا فإن إطلاق مصطلح المركنتلية على التصرفات الشخصية يعني الذاتية وإنكار حق الغير وتقديم المصلحة الخاصة على العامة.
هذه المقدمة ضرورية في نظري لفهم خبر أوردته إحدى الصحف السعودية عن قيام مستشفى خاص في جدة برفع دعوى قضائية ضد أب سعودي يختفي ويترك طفله المولود حديثا لكيلا يدفع فاتورة المستشفى. بهذه الصيغة يريد المستشفى رفع الدعوى ضد هذا المواطن الهارب، ويا له من مواطن قاس يهرب هو وزوجته تاركين طفلهما للمجهول، هذا ما يريد المستشفى أن يقنعنا به. تكمل الصحيفة الخبر لتخبرنا أن الفاتورة بلغت 307 آلاف ريال، وأن الزوجان السعوديان قد اختفيا عن الأنظار تاركين وراءهما رضيعهما الذي يبلغ من العمر أربعة أشهر (هربا) من دفع الفاتورة (البسيطة) لنفقات الولادة و حضانة الطفل. وفي الخبر أيضا أن الوالد (السعودي) قد حاول نقل المولود إلى أحد المستشفيات الحكومية دون جدوى. كما يظهر أن قيمة الفاتورة تثمل نفقات الولادة المتعسرة في الشهر السادس وأن التوليد تم بشكل طبيعي وأدخل المولود إلى غرفة العناية ووضع على جهاز التنفس الصناعي لمدة شهرين مع إجراء أكثر من عملية لنقل الدم إليه.
من الواضح أنه قد تم صياغة الخبر من قبل المستشفى أو تحت نظره فيبدو وكأن المستشفى مهتم بالطفل وأهل الطفل وأن الوالد هو سبب المشكلة، حيث لم يأت لتسلم طفله وبقي هاربا من مبلغ لا يكاد يذكر (فقط 307 آلاف ريال عن ولادة طبيعية وحضانة طفل). لكن يبدو أن القضية أكبر من مجرد أب مستهتر وطفل مسكين بل قضية التجار في الصحة (ولا أريد أن أقول المركنتلية).307 آلاف ريال مبلغ هائل بكل المقاييس بالنسبة لي وأعتقد أنه كان كذلك بالنسبة لوالد الطفل. أعتقد أيضا أن الأب لم يتنازل عن طفله مقابل المبلغ، كما يريد المستشفى أن تظهر القصة، بل مثله في ذلك مثل كل المتورطين مع المستشفيات الخاصة فلم يُمكَّن الأب من الوصول إلى طفله قبل تسليم المبلغ – ليصبح الطفل مثل الرهن أو الرهينة حتى تصفى كامل المبالغ المستحقة سواء أن يبيع الأب كل ما يملك ويبقى مدينا إلى نهاية الأجل أو أن يقوم أهل الخير بسداد المبلغ وفي كل الحالات يطلق سراح الطفل ويكافأ المستشفى على تصرفاته بحثا عن رهينة أخرى.
وتبقى أسئلة كثيرة محيرة في هذا الموضوع، أولها وأهمها: أين دور وزارة الصحة في كل هذا الأمر؟ لماذا تظهر القضية وكأنها قضية تجارية محضة، مبلغ لم يسدد؟ لماذا لم يقبل أي مستشفى حكومي حالة الطفل؟ وحتى إذا لم تكن هناك أسره متاحة فلماذا لا تتحمل الوزارة تكلفة السرير الخاص؟ والسؤال الثاني والذي لا يقل أهمية عن الأول هو: كيف بلغت الفاتورة هذا المبلغ الضخم لمجرد ولادة طبيعية وحضانة طفل لمدة شهرين؟ فلو أنه تمت إعاشة الطفل وأهله في فندق خمسة نجوم وتم تغيير أو زراعة أعضاء للطفل وبعض أهله لما بلغ المبلغ 307 آلاف ريال. ومرة أخرى - في تقديري. ثم ـ وهذه عادة لدى المستشفيات وإن لم تذكر في الخبر ـ كيف لا يستطيع الوالد الوصول إلى ولده أو إخراجه من المستشفى إلا بعد دفع الفاتورة - أين حقوق الإنسان؟ لماذا لم يقم المستشفى بتقدير تكلفة العلاج للأب ومحاولة تقديم برنامج للسداد يتناسب مع حالة الأب المادية؟ بل أين التأمين الصحي؟ أين وأين وأسئلة كثيرة لا أعتقد أن القارئ الكريم يتوقع مني الإجابة عنها.
إني أرى أن تقوم وزارة الصحة بدراسة هذه الحالة فعليا والتأكد من صحة الإجراءات الطبية كافة التي أجريت للطفل والأم، وهل تم إجراء فحوص غير ضرورية أو يمكن الاستغناء عنها؟ هل تمت المبالغة في بعض التحفظات؟ لماذا لا تؤخذ الإجراءات المماثلة في المستشفى الحكومي كمعيار؟! حيث إن أي إجراء لم يكن ليتخذ في المستشفى الحكومي فإنه يسقط من الفاتورة ثم يتم إعادة تسعير جميع الإجراءات الأخرى بطريقة فعلية بعيدا عن التجار وزمنهم.
أقول - وليعذرني وزير الصحة وجهوده هائلة ومشهودة ومشكورة - لقد وصل التجار إلى الصحة، فتراهم في المستشفيات الحكومية من خلال برامج مركز الاستشاريين الخاص حتى زاحموا المستشفى على أسرته المجانية، وتصل تكاليف بعض العمليات إلى مئات الآلاف دون تسعيرة معلنة من الوزارة، وحتى أن بعض الاستشاريين السعوديين يرفض القيام بالعملية إلا بعد موافقة أهل المريض على تسعيرته الخاصة به ودون تفاوض وإذا لم يعجبهم السعر فعليهم انتظار الدور الذي لا يأتي أو البحث عن طبيب آخر. ولا نعرف بعد هذا من هم أصحاب الحقوق الذين ستوزع عليهم حصيلة دخل المركز الاستشاري ـ إذا كان خاصا كما هو اسمه.
لقد وصل التجار إلى الصحة حتى أن زارعة سن تصل إلى عشرة آلاف ريال في الوقت الذي تقل فيه عن مائة ريال في دول الجوار حتى ظهرت سياحة عيادات الأسنان. ومرة أخرى لا نعرف الأسباب الحقيقية وراء هذا الارتفاع الهائل لدينا! إنهم التجار عندما لا يهمهم سوى المادة والذهب وتكديس الثروة والاحتكار حتى أننا نجد إعلانات غريبة جدا مثل أن العين لا تقدر بثمن ـ سارع بالكشف لدى مستشفى كذا، وكأنه يقول استعد لثمن الفاتورة لأن عينيك أغلى، وعبارة ما خفي كان أعظم ولا تبخل على صحتك. إعلانات تجار في ثياب الاستشاريين فأين كرامة المهنة يا معالي الوزير؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي