نعم نحنُ مسلمون
ليس من قبيل الجدل أن يرفض المجتمع أو الحكومة في السعودية وصف كلمة (الوهابية) على منهجها الديني، لعدة أسباب دينية أو سياسية وسأحاول شرحها بالتفصيل في مقالي بقدر الإمكان والمساحة المخصصة لي في المقال، أذكر في مقدمتها ارتباط هذا الاسم بمذهب آخر يدعى (الوهبية) وهو مذهب ديني أنشأه وأسسه عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم بن بهران بن كسري، ابن مؤسس الدولة (الرستمية) في مدينة) تهرت) في شمال إفريقيا، وهذا المذهب خرج عن الأباضية بعد نزاع على طريقة تولي الحكم، فعمد عبد الوهاب إلى تعطيل الشرائع الإسلامية وألغى الحج، وحصلت بينه وبين معارضيه من الشيعة والسنة حروب ضروس، صدرت بشأنها فتاوى من علماء وفقهاء الأندلس وشمال إفريقيا بتكفيرهم، وأغلب التراجم الأجنبية بعد ذلك أخذت واستقت معلوماتها عن (الوهبية) منها، والشبهة التي حصلت روجت بعد ذلك للربط بين الوهبية الرستمية والوهابية السلفية في عام 1800م، ثم حاول الآخرون بث الفرقة بين صفوف أهل السنة، ووجدوا ثوباً جاهزاً من الماضي ألبسوا فيها دعوة محمد بن عبد الوهاب تنفيرا.
لذلك فالباحث في الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) أشهر الموسوعات العالمية، لن يجد لها تعريفا علميا موثوقا، مما أجبرها أن تضع على موقعها في شبكة الإنترنت، رسالة إلى الزوار تطلب منهم مساعدتها في تحديد هذا المصطلح وإلى متى يعود، ورصدت الموسوعة 12 مؤلفاً يتحدث عن (الوهابية) باعتبارها منسوبة إلى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
الزميل محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ في عام 2004م قال في جريدة "الحياة"، (يجب أن نتقبل صفة الوهابية السلفية لأنها أولاً شاعت وتجدرت في الشكل الذي جعلها كدعوة أو حركة دينية واستقرت في ذهن الجميع تحت هذا المسمى)، ثم أيدت فكرة التجدر التاريخي فكتبت مقالي (نعم نحنُ وهابيون) في جريدة "الحياة" بعده في العام نفسه، والذي حاولت فيه رصد الدعوة الإصلاحية ومراحلها التاريخية والجدل الذي أحيط بها، وبعد مرور تلك الفترة السابقة، لا أتذكر أن حواراً تفجر حول هذا الموضوع، إلا موضوع الأستاذ محمد الشيوخ، ومن بعده الزميل الأستاذ نجيب الزامل في سلسلته الثلاثية عن الوهابية في صحيفة "الاقتصادية"، ثم مقال الأستاذة بسمة عدنان السيوفي في الصحيفة نفسها تحت عنوان "الوهابيزم" والتي أعتقد أنه تداخلت عليها الدعوتان على أساس كلمة البحث باللغة الإنجليزية Wahhabism، ومع ذلك أنا أجزم أن مقالتنا جميعاً ليس مع الوهابية السلفية أو ضد الوهبية الأباضية، ولكن نحنُ ضد تغييب صوت العقل الراشد، ومحاولات الطمس المقصود للأحداث الديني والسياسي ومجرياته في السعودية، لذلك سأنطلق دون نقد أو تجريح، وأنظر إلى واقعنا اليوم بتجرد مع محاولتي الصادقة بقدر الإمكان إسناد معلوماتي بوقائع تاريخية توضح المقصود الفعلي من المقال والذي أسعى إلى توضيحه في الجزء الثاني من هذا المقال.
لذلك أنطلق بعد أحداث 11 من أيلول (سبتمبر)، وأقول: بات واضحاً أن الأزمة المذهبية في السعودية أخذت نحو التهدئة وليس التصعيد رغم المحاولات الإرهابية التي حاولت نزع الأمن والطمأنينة، والتي فشلت نظرا لدخول بعض عوامل التغير في المجتمع المدني السعودي، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كذلك إسهامات جهود خادم الحرمين الشرفيين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود منذ إن كان ولياً للعهد ثم ملكاً للبلاد، وتبنيه إصلاحا دينيا وسياسيا واجتماعيا، وهذا الأمر يدعونا إلى تبني منهج ولي الأمر وأهدافه الإصلاحية، بدلاً من الدخول في معترك الاعتراض أو القبول بكلمة أو مصطلح (الوهابية)، وهذا المصطلح حسم قبل 77 عاماً تقريباً من قاموسنا السياسي، من المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود، حين أكد أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إصلاحية، بقوله (يسموننا بالوهابيين ويسمون مذهبنا الوهابي، باعتبار أنه مذهب خاص، وهذا خطأ فاحش نشأ عن التداعيات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض، نحنُ لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبد الوهاب بالجديد، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح).
وتأكيد على المنهج الإصلاحي للدعوة السلفية، فقد كانت موجهة في إطارها الأول حول تجديد عقيدة السلف الصالح في محيطها الصغير (الدرعية) ومن ثم محيطها الكبير (العارض) في نجد، وثمة اتفاق تاريخي بين معظم الباحثين أن تحولها من التجديد للدعوة والعقيدة إلى نظرية سياسية دينية، كانت منعطفا تاريخيا مهما في مسيرتها، لها مبررات عديدة وفي مقدمتها، مفهوم (الطاعة) و(البيعة) على وجه الخصوص، وهو الأمر الذي كرس هذه النظرية وعمقها وجعلها تقاوم كل رياح التحديات التي هبت في اتجاه مغاير لتوجهاتها طوال 300 عاماً.
وما حدث طبقا لوقائع التاريخ في تفسير التحول من (دعوة إصلاحية) إلى (نظرية سياسية)، هو انشقاق قوات الإخوان على الملك عبد العزيز آل سعود، وعلى مبادئ وأسس الإصلاح التي آمن بها المؤسس، رحمه الله، ولم يعد سرا أن الإخوان كانوا يجدون في الدعوة الوهابية جهادا لا تحده حدود جغرافية، ولا موازين قوة أو ضعف، وهو الأمر الذي لم يقبله الملك عبد العزيز آل سعود، وكانت نقطة الخلاف المفصلي الذي ما لبث أن تحول إلى مواجهة كبرى، ووقائع التاريخ تؤكد تدخل العلماء وفقهاء الدعوة السلفية، بكل قوة وحسم لإطفاء نيران العصيان والخروج عن الشرعية، بفتوى معركة (السبلة) لتكون المفترق التاريخي للإقرار نظام دولة تقوم على نهج السلف الصالح عقيدةً، وإقرار نظام مدني يستند إلى الأنظمة والتشريعات.
نقطة مهمة نقف عندها بتمعن، لكي نقوم بعملية مقارنة سريعة للنظام الديني والاجتماعي في عهد الملك عبد العزيز وقبل حادثة (حركة جهيمان) التي شهدها الحرم المكي عام 1980م، نجد أن السعودية كانت تسير بخطوات هادئة ومتزنة من البداوة إلى المجتمع المدني، وخلال هذا التاريخ، كانت هناك مناظرات دينية ما بين (الوهابية) وبين (الصوفية) و(الشيعة)، ولكنها كانت مواجهات فكرية وليس تنظيمية سياسية، ولم ترتبط الوهابية بـالتعصب أو بالتطرف القائم على الجهاد، إلا بعد أحداث الثورة الإسلامية في إيران والجهاد الإسلامي في أفغانستان.
وبالمقارنة نفسها والتاريخ في عهد الملك عبد العزيز آل سعود، نجد في عهد الملك فؤاد الأول، ملك مصر والسودان نشأت حركة الإخوان المسلمين في عام 1928م، حيث كانت الوهابية السلفية والإخوان المسلمين تسيران فكرياً في خط متواز دون أن تلتحما مع بعضهما بعضا، ولكن بعد سقوط القومية العربية بدأت حركة (الإخوان) المصرية تجتاح العالم العربي، وامتدت آثارها لتصل إلى السعودية وتختلط عملياً بـ (الوهابية)، وتجد البيئة والمناخ المناسب لشد ذراعيها، وتم الترحيب بهم من منطلق ديني بحت، فالسعودية كانت تجد فيهم ـ أي الإخوان ـ قوة أمام المد الشيوعي والإلحاد العقائدي.
ختاماً: إن فكرة التعصب والتطرف خلال 100 عام مرت بأزمنة ومراحل متعددة وفي مناطق مختلفة، اشتدت تصاعدياً من مصر بعد إعدام سيد قطب، وفي السعودية بعد دخول جهيمان الحرم المكي، وفي إيران بعد الثورة الإسلامية، وفي أفغانستان بعد دخول الاتحاد السوفياتي، بعدها تدريجياً أصبحت الحركات الإسلامية أكثر غلواً وتطرفاً وأعادت صياغة وجودها بما يخدم توجهاتها الفكرية، وأصبغت (القدسية) على أعمالها، فتمردت على مفهوم الطاعة والامتثال لولي الأمر، وأصبحت تحارب في اتجاهين الدول المشركة والدول الخارجة عن تطبيق شرع الله، وجاء دخول أمريكا إلى العراق ليشعل فتيلا يصعب إطفاؤه. وللحديث بقية