الجهاد بين إظهار الدين والمحافظة على المسلمين وقوتهم

drashwan59@yahoo .com

يقوم أمير جماعة الجهاد المصرية السابق ومفكرها الأول سيد إمام الشريف الشهير بالدكتور عبد القادر بن عبد العزيز أو الدكتور فضل حالياً، بنشر مؤلفه الأخير الذي يراجع فيه ويصحح أفكاره الجهادية العنيفة القديمة "وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم". ومن المعروف أن الرجل كان من أوائل الذين وضعوا المؤلفات لتبرير حالة العنف والإرهاب التي انزلقت إليها أولاً الجماعات الجهادية المصرية في سعيها لقتال السلطات في بلادها ثم بعدها الجماعات الجهادية الأخرى في مواجهتها المزدوجة لما تراه العدو الخارجي وسلطات بلادها في وقت واحد.
وقد تناولت وثيقة الترشيد قضايا كثيرة تتعلق بالجهاد وصححت مفاهيم كثيرة مغلوطة علقت به من جرّاء التطرف والغلو، من بينها واحدة مهمة وهي شرط امتلاك القدرة لوجوب الجهاد على المسلمين، التي عرفها بصورة واضحة بأنها "لا تنحصر في ذات المسلم كالقدرة البدنية والمالية، وإنما تتعداه إلى واقع الظروف المحيطة به من الموافقين والمخالفين"، ورتب على ذلك حكمه بأن افتقاد القدرة بهذا المعنى لا يوجب الجهاد على المسلمين. وفي هذا الإطار ذهب الشريف إلى أنه مع بقاء واجب الجهاد قائماً إلى يوم الدين، إلا أن سقوطه عن العاجز أو المستضعف باق أيضاً إلى يوم الدين استناداً إلى تفسيره لعديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ووقائع سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهو ما يجعل الجهاد واحداً من مسالك ثلاثة أمام المسلم لمواجهة ما يقتضيه نصر الدين أو الدفاع عنه، وليس المسلك الوحيد كما تظن الجماعات الجهادية. فغير الجهاد هناك مسلك الاعتزال وترك المواجهة، كما أن هناك مسلك كتمان الإيمان لغياب القدرة وعدم مواءمة الظروف المحيطة للجهر به. وفي الحلقة نفسها وفي سياق الاستطاعة نفسها كشرط لوجوب الجهاد، قرر المؤلف أن افتقاد النفقة اللازمة للمجاهد وجهاده وكذلك لأسرته ومن يعولهم تؤدي إلى سقوطه كواجب عمن لا يملك النفقتين. ورداً على مَن يجيزون أعمال السطو وغيرها من المسالك المحرمة لتمويل الجهاد، حرم الرجل ذلك بوضوح استناداً إلى أن "مَن استولى على مال حرام ليؤدي طاعة، فإن استيلاءه حرام وطاعته فاسدة غير مقبولة"، وذلك على القاعدة الفقهية "المبني على الفاسد فاسد"، لأنه "لا يحل لمسلم أن يرتكب ما حرم الله عليه ليؤدي ما لم يوجبه الله عليه".
ويطرح الدكتور فضل في الإطار نفسه قضية أخرى مهمة تتعلق بالجهاد كواجب وهي قضية المحافظة على ذات المسلمين وقوتهم، التي يجعلها واحدة من مقاصد الشريعة التي يجب الحفاظ عليها. ويعرض المؤلف أدلته بالإشارة أولاً إلى أن "المقصود من الجهاد هو إظهار الدين والتمكين لأهله"، فإذا غلب الظن أن بعض التصرفات باسم الجهاد ستؤدي إلى "الإضرار بالمسلمين فيما لا يعود بإظهار الدين من مواجهات مع أعدائه، فيجب والحال كذلك المحافظة على المسلمين ولا يجوز تعريضهم هم أو ذراريهم لمهالك يمكن اجتنابها". ولكي يؤكد الرجل أن هذا الحكم شديد الأهمية يورد أربعة أدلة رئيسية: الأول، هو اعتبار أن الله قد أجاز المسلكين السابق الحديث عنهما، أي الاعتزال والكتمان، في حالة عدم الاستطاعة للحفاظ على نفوس المؤمنين بالرغم من أن ذلك لم يؤد إلى إظهار الدين. ويقوم الدليل الثاني على أن الله لم يوجب الجهاد ولا الولاء والبراء ولا تغيير المنكر باليد على المسلمين في مكة قبل الهجرة، "لأن هذه الواجبات الثلاثة وإن كان فيها إظهار للدين إلا أنها مضرة بهم". ويأتي الدليل الثالث من حالة العاجزين من المسلمين عن الهجرة من مكة والمهاجرين في الحبشة، حيث لم يوجب الله عليهم الجهاد الذي فرضه على إخوانهم في المدينة، وذلك لأنهم مستضعفون "والمستضعف يحتاج إلى مَن يجاهد لإنقاذه ونصرته لا أن يؤمر هو بالجهاد".
أما الدليل الرابع فيلخصه المؤلف في "عدم جواز الدفع بالمسلمين إلى مواجهة غير متكافئة مع أعدائهم إبقاء على المسلمين"، ويسوق لتأكيد الأبعاد المختلفة لهذا الحكم عدة أدلة، منها تخفيف القرآن على المسلمين من وجوب ثبات الواحد منهم لعشرة من الكفار إلى اثنين فقط وإجازة فرار المسلم من القتال إذا كان سلاحه أضعف. وإضافة إلى هذا أجاز الله أيضاً "للمسلمين الفرار (الانحياز) من مواجهة أعدائهم لأجل التحرف للقتال (تغيير الخطط) أو التحيز إلى فئة (الاستعانة بغيرهم من المسلمين)، وقد قام بهذا الفرار خالد بن الوليد في غزوة مؤتة، التي سماها النبي رغم ذلك فتحاً وذلك انطلاقاً من أنه "كما أن النصر على العدو يسمى فتحاً، فكذلك عدم تعريض المسلمين للهلاك يسمى فتحاً أيضاً". ويمد الدكتور فضل الأمر إلى نقطة أبعد في تعريفه للفتح، حيث هو "اختيار المسلم للخيار الشرعي والقرار المناسب لواقعه وظروفه"، وهو ما يمتد ليس فقط إلى الفرار أو التحرف في القتال، بل وأيضاً إلى الصلح مع العدو كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) في صلح الحديبية الذي سماه القرآن الكريم فتحاً. وبذلك تصير كل الخيارات الشرعية مفتوحة أمام المسلمين ما دامت تصدر عن توافق مع الواقع والظروف، سواء كانت حرباً أم صلحاً ومعاهدة، المهم في كل ذلك هو تحقيقها مصلحة الإسلام والمسلمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي