الفقر الجيد والفقر السيئ

[email protected]

هناك على الدوام جانب مظلم في الحياة الإنسانية يتمثل في المشكلات والظواهر التي تلازم حياة البشر والتي أثبتت أنها من المستحيل علينا التخلص منها أو إزالتها بالكامل. ومن أبرز هذه الظواهر التي عرفها الإنسان منذ القدم ظاهرة الفقر, والفقر والحروب هما أصدق تعبير عن عجز الإنسان عن إدارة شؤون حياته بعدل ورحمة من دون تسديد وهداية من السماء. وعلى الرغم من كل التقدم الاقتصادي والعلمي والتقني والحضاري الذي يعيشه الإنسان في وقتنا الحاضر إلا أنه يسجل إخفاقا كبيرا في محاصرته الفقر حتى على مستوى المجتمعات المتقدمة والغنية التي يفترض أنها تمتلك من الموارد والثروات ما يمكنها من التحرر والتخلص منه ربما كليا. فوجود الفقر ومقدار اتساعه في المجتمع هو إلى حد كبير تعبير عن وجود خلل في المجتمع في بناء تركيبته وتشكيل مكوناته, وبالتالي فالحلول التي لا تنطلق ولا تأخذ في حسبانها تصحيح مثل هذا الخلل نجدها تفشل في حل المشكلة إن لم تتسبب في زيادة حجمها. ومجتمعنا أدرك أن الفقر مشكلة تستوجب منا خططا شمولية وطويلة المدى لمحاصرتها والحد من اتساعها. فنحن, والحمد لله, نمتلك مخزونا ماديا هائلا يتثمل فيما عندنا من موارد وثروات طبيعية تسهل لنا كثيرا التصدي لمثل هذه المهمة بشرط أن نحسن إدارتها وألا نسمح للفساد وسوء الإدارة وعدم الحكمة في تحديد موارد صرفها من أن نبعثرها من بين أيدينا, وعندنا أيضا, وهو الأهم, مخزون أخلاقي وديني يتمثل في قيم وأخلاق وعادات كلها تجعل منا أكثر استعدادا وقبولا لمد يد العون والمساعدة لمن هم في حاجة إلى ما يقوم به حياتهم.
فالعالم اليوم بمؤسساته التطوعية والخيرية والإنسانية طور من فكره وأدواته التي يتعامل بها مع مشكلة الفقر, وعلينا أن نستفيد من هذا الفكر وهذه الخبرة والرؤية التي تولدت عند هذه المؤسسات في تعاملها مع هذه المشكلة. فهناك تحولات جذرية في النظرة إلى الفقر, فلقد تحول الاهتمام من الوسائل إلى النتائج, فليس المهم أن يكون عند هذا الإنسان وظيفة أو عمل ولكن الأهم هو: هل هذه الوظيفة وهذا العمل يعود على الإنسان بمدخول يضمن له المستوى المعاشي الذي يلبي المتطلبات الأساسية وفق المجتمع الذي يعيش فيه؟ هذه نقطة من الجدير أن نهتم بها في التعامل مع مشكلة الفقر عندنا, فنحن نعرف أن البطالة ربما هي من الأسباب الرئيسية للفقر ولكن هل نريد أن نعالج البطالة بأعمال ووظائف لا تعود على المواطن برواتب تسد حاجاته الأساسية؟ فلا نريد أن نحل البطالة بشكل ينتج لنا طبقة كبيرة من الناس ممن رواتبهم دون الألفين وحتى ثلاثة آلاف ريال, ونحن نعرف أن هذه الرواتب لا تكفي للعيش في الحد الادنى في مجتمعنا, وهذا إن لم نأخذ في الحسبان الغلاء وارتفاع الأسعار الحالي. فليس الفقراء هم فقط من ليس عندهم عمل ووظائف ولكن ربما الشريحة الأكبر من الفقراء الموجودين عندنا هم اليوم ممن يعملون وعندهم وظائف ولكنهم في الحقيقة فقراء بل ربما أكثر فقرا من غيرهم وأكثر حاجة من الآخرين, لأنه ربما هذا الفقير هو من الذين لا يعول نفسه فقط ولكن في رقبته عائلة وأطفال تنتظر منه ما يسد جوعهم وحاجاتهم. فلنوسع من معرفتنا لدائرة الفقر إذا ما أردنا حقا أن نأتي بحلول جذرية وألا يقتصر فعلنا على الأمور البسيطة والشكلية. فالفقر السيئ هو أن نترك هذا الموظف أو العامل في فقره يعاني هو وعائلته وربما يدفع به هذا الفقر إلى النقمة على المجتمع والتفكير في السير في مسالك غير شرعية ولا قانونية لتجاوز ما هو فيه من فقر وحاجة, وباستطاعتنا أن نمنع من أن يتحول هذا الفقر إلى فقر مدقع وفقر سيئ وذلك بإيجاد مؤسسات مدنية واجتماعية لتقدم له الدعم والمساندة وتحيل بقدر المستطاع من أن يتحول فقره إلى حالة مهينة لإنسانيته ومهددة لأمن المجتمع واستقراره.
أما النقلة الثانية في التنظير والتخطيط لمعالجة الفقر فهي الانتقال من مفهوم الحاجات إلى ما هو أرقى من هذا المفهوم إنسانيا وأخلاقيا, وهو مفهوم الحقوق, فالفقير ليس كائنا محتاجا فقط ولكنه إنسان له حقوق على هذا المجتمع, وعلى المجتمع أن يتحمل مسؤوليته في الوفاء بهذه الحقوق. وإذا كان مبدأ الحق وليس الحاجة هو آخر ما توصل إليه العقل الإنساني, وأن الأمر ما زال في طور التنظير وهو في حاجة إلى زمن وتحضر أخلاقي ليتحول من مبدأ فكري ودعوة أخلاقية إلى قناعة وممارسة عملية فإن الإسلام قد أصّل هذا المبدأ بخطابه الذي يؤكد حق الفقير وحق المحروم وحق السائل وحق اليتيم, وهو مبدأ في حاجة إلى تفعيل في ثقافتنا وإعادة تأسيس في مجتمعنا إذا ما أردنا لحلولنا ولاستراتيجياتنا في التعامل مع مشكلة الفقر أن تؤتي ثمارها ونحقق بها النتائج المرجوة في محاصرة هذه الظاهرة. وفي إطار هذا المبدأ يتحتم علينا كمجتمع ومؤسسات مدنية أن نحفظ للإنسان الفقير كرامته وألا نجعله يضطر إلى أن يعرض نفسه للذل والإهانة, وهذا يتطلب منا أن نرتقي بوسائلنا لتقديم العون له, فلم يعد من المقبول أن تأتي ترتيباتنا وكلها فيها استعلاء على الفقير وكلها أمور تشعره بتفضلنا ومننا عليه, وقد نجعله يمر بسلسلة طويلة ومعقدة من الإجراءات والتذلل, وهذا يتنافى مع مبدأ أنه طالب حق وليس محتاجا فقط. ما أروع الأخلاق الإسلامية وهو يكشف لنا ألا نتبع صدقاتنا بالمن وعلينا أن نوصل عطايانا للفقير والمحتاج ونحرص على ألا نعرف أنفسنا له خوفا من أن يشعر بالحرج منا, وعندما يبالغ بألا تعرف اليد اليسرى ما أعطته اليد اليمنى فهو يريد أن يعبر عن حرصه الشديد من ألا ينتابنا حتى شعور نفسي بالمنة على الفقير. ولا يكفي منا أن نلتزم هذا المبدأ الأخلاقي نظريا, بل علينا أن ندرب أنفسنا وأن ندرب من تناط بهم مهمة الانخراط في هذا العمل لكي نجعل منها أخلاقا عملية نتمسك بها ونمارسها وأن نجتهد في تنظيم بيئة العمل التي نتحرك فيها لكي تكون بالشكل الذي يبعدها عن التعقيد والتي تجعل الفقير يشعر حقا أنه صاحب حق, وأن الذين يقومون بهذا العمل هم في موقع المسؤولية لتقديم الخدمة إليه والتسهيل عليه.
أما المبدأ الثالث أو النقلة الثالثة في التفكير الحديث بخصوص مشكلة الفقر فهو استخدام قياسات ومؤشرات عديدة وليس الاكتفاء بمؤشر أو قياس واحد. فالفقير ليس فقط هو من لا يستطيع أن يسد حاجته من الأكل والشرب واللبس, فعدم امتلاك السكن المناسب أو القدرة على استئجاره هو الآخر مؤشر من مؤشرات الفقر, والقدرة على تأمين العلاج له ولعائلته هو أيضا مؤشر آخر, وعدم القدرة على تعليم نفسه وتدريبها وإتاحة هذه الفرصة لمن يعولهم هو مقياس آخر من مقاييس الفقر, وحتى المشكلات الأسرية والاجتماعية وعدم القدرة على الحصول على ما هو مطلوب من مساعدة متخصصة في هذه المجالات هي تعني معنى من معاني الفقر التي يجب أن نأخذها في الحسبان. وإيجاد المؤسسات والآليات التي تضمن للإنسان المواطن الفقير مثل هذه الحاجات وتؤمنها له هي التي تبقي عندنا الفقر في حالته الجيدة ولا تحيله إلى فقر سيئ له من النتائج الخطرة على مجتمعنا. فالإنسان الذي يستطيع أن يؤمن لنفسه ولعائلته الطعام والشراب واللباس ولكن لا يستطيع أن يؤمن السكن المناسب ولا العلاج المناسب ولا إتاحة الفرصة لأبنائه من الحصول على التعليم المناسب فهو إنسان فقير بالمعنى الحقيقي وعلى المجتمع أن يجد السبل لمساعدته ومد اليد العون إليه.
وهناك مبدأ آخر ومهم جدا وسنترك مناقشته لوقت آخر, وهو أن الفقر الجيد يبقى فقرا جيدا إذا استطعنا ألا نجعل من مجتمعنا مجتمعا فقيرا من الأدوات والوسائل التي تعين الفقير على ممارسة حياته بأكثر سهولة ويسر, فمثلا لماذا يفرض على الفقير أن يقتني سيارة وما يستوجب شراء سيارة من مصروفات ونفقات كثيرة لا لسبب إلا أن حياتنا قد نظمت ورتبت بطريقة تجعل من الصعب وربما من المستحيل على الإنسان أن يعيش من دون سيارة, فوجود مواصلات عامة من حافلات وقطارات وغيرها لها دور كبير في معالجة الفقر وبطريقة حضارية, وهذا مجرد مثال في إطار هذا المبدأ, الذي سنفصل فيه لاحقا, إن شاء الله.
لا نريد للحملة المضادة للفقر والجهد المبذول لمحاصرته في مجتمعنا التي باشر بإطلاقها خادم الحرمين الشريفين بزيارته المشهورة للأحياء الفقيرة في الرياض أن تفقد زخمها وتشتت من جهودها ويخف من حماس الرجال القائمين عليها, ولكننا أيضا مطالبون بتقديم نتائج ملموسة وعلى أرض الواقع بعد كل هذه الفترة الزمنية الطويلة نسبيا وما خصص لها من موارد مادية وما حصلت عليه من دعم تشريعي وتنظيمي. فمحاربة الفقر يجب أن تكون مهمة وطنية, وعلينا أن نعطيها أولوية متقدمة من اهتماماتنا وفي إعداد خططنا ولكن بشرط أن تأتي هذه الجهود في إطار فكري وأخلاقي يتناسب وطبيعة هذه المشكلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي