إعادة الاعتبار للإنسان
الناظر في حال مجتمع كبار رجال الأعمال، يمكنه أن يميز أن من بينهم من ألهمهم الله فكرا سديدا وآتاهم نظرا حصيفا، فعرفوا ما يفرضه عليهم نجاحهم من مسؤوليات تجاه مجتمعهم. هم عصبة أدركوا أن بقاءهم واستمرار نجاحهم يتطلب منهم أن يكونوا من الناس وإليهم. وأن كل نجاح يصيبونه وكل نمو يحققونه في مجال نشاطهم الأساسي، يعني بالنسبة لهم مزيدا من الإحساس بتعاظم المسؤوليات الملقاة على عواتقهم تجاه الناس والبيئة والمجتمع. فتجدهم قد ألزموا أنفسهم بهذه المسؤولية، بكل ما أُوتوا من صدق وإخلاص في النية وحب واهتمام للرعية. فجعلوا هذه المسؤولية ضمن أجندة اهتماماتهم، ولازموا بينها وبين أصل نشاطهم، وحرصوا على ألا يصرفهم عنها شاغل من شواغل إدارتهم اليومية لنشاطهم التجاري. من هؤلاء الرجال رجل أصبحت أعماله تسبق أقواله، وأضحت سمعته تسبق حضوره، وقد أجمع الناس على الإشادة بنهجه، حتى قال فيه وزير العمل الدكتور غازي القصيبي ذات يوم: ليت لدينا في مجتمع رجال الأعمال 100 رجل من هذا الطراز. نعم إنه المواطن البار ببلده وناسه المهندس محمد عبد اللطيف جميل. وقد تلطف هذا الحامد الجميل فدعاني الأسبوع الماضي، ضمن ثلة من رجال الفكر والعلم والإعلام، للاستماع للمحاضرة القيمة عن تحديات التنمية المستدامة التي ألقاها ضيفه جورن ستيغسون، رئيس مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة. جرى اللقاء في المبنى الأنيق الذي شيدته مؤسسة عبد اللطيف جميل أخيرا في مدينة جدة لخدمة المجتمع، على أن يتلوه مبنيان مماثلان في كل من الرياض والدمام.
أما مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة فهو تحالف طوعي يضم 200 مؤسسة من كبرى الشركات الدولية وأكثرها تأثيرا مثل: أمريكا أون لاين، تايم ورنر، إيه تي آند تي، باير، كوكا كولا، وغيرها. لكن المشاركة العربية في هذه الهيئة تكاد تكون معدومة، وفهمنا من شرائح العرض التي استخدمها المحاضر أن مؤسسة عبد اللطيف جميل هي المؤسسة السعودية الوحيدة المنضمة لهذا التحالف منذ عام 2005م. وقد نبه المحاضر إلى ضرورة أن يزيد العرب من مشاركاتهم ليكون لهم صوت مسموع في هذه القضية الحيوية.
لم يكتف المهندس محمد جميل بسبق الانضمام, بل قام بما يفرضه عليه حسه الوطني، فرتب للضيف لقاءات مع عدد من شركاتنا وهيئاتنا الوطنية الكبيرة كشركتي أرامكو وسابك والهيئة العامة للاستثمار، لحثهم على الانضمام لهذا المجلس الدولي المرموق. وقد نجح حيث لقي الضيف تجاوبا وحماسا كبيرا من هذه الجهات.
إن المشاركة في هذا التحالف تتيح لنا فرصة التأثير في سياسات المجلس وقراراته بما يخدم مصالحنا، فضلا عن توثيق الصلة مع شخصيات عالمية نافذة لديها الاهتمام نفسه، وهو الأمر الذي سيزيد من سمعة بلادنا ومكانته على مستوى المحافل الدولية.
إن غاية هذا التحالف هو إيجاد المحفزات التي تدفع الجميع للالتزام بمفهوم التنمية المستدامة. ذلك أن النمو السكاني الكبير الذي شهده عالمنا في القرن الأخير صاحبه طلب متزايد على الغذاء والماء والمأوى والرعاية الصحية والطاقة وغيرها من الموارد. وقد انطوى هذا النمو على هدر في الموارد وتخريب للبيئة. وأصبح الحال يستوجب إعادة النظر في أنماط الإنتاج والاستهلاك، وإلى ضرورة الالتزام بمنهج مسؤول في عملية التنمية الاقتصادية، من خلال حث المؤسسات والشركات على تلبية احتياجات الناس الحاضرة، لكن دون تخريب أو تلويث للبيئة ودون مساس بحق الأجيال القادمة في الموارد التي بين أيدينا. لكنها مسؤولية جسيمة تتطلب تعاونا دوليا واسعا لتبادل الخبرات والمعلومات والموارد من أجل تحسين ظروف معيشة البشر وحماية كوكبنا من مضار النمو غير المسؤول للمحافظة على ازدهاره ورخاء سكانه.
لعل من أهم التحديات التي تواجه فكرة التنمية المستدامة مسألة ضبط النمو الهائل في استهلاك الطاقة، وحماية المناخ من مساوئ زيادة نسبة الكربون المصاحبة للإنتاج الجائر في مختلف دول العالم، وكذلك القضاء على الفقر.
التنمية المستدامة ليست عبئا، كما قال كوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة السابق، وإنما هي فرصة فريدة لتحسين معيشة الناس - فهي تتيح، من الناحية الاقتصادية، إقامة الأسواق وفتح أبواب العمل، ومن الناحية الاجتماعية، دمج المهمشين في تيار المجتمع، ومن الناحية السياسية، منح كل إنسان صوتاً وقدرة على الاختيار لتحديد مسار مستقبله. إنها باختصار إعادة الاعتبار للإنسان فهو محور التنمية وغايتها.
على مائدة العشاء التي تلت تلك المحاضرة، أخبرني المهندس محمد جميل والفرح الصادق يقفز من عينيه أنهم وفقوا في توظيف 20 فتاة في مستشفاهم الخيري، وأنهم حققوا جميع أهدافهم الشهرية في مجال التدريب والتوظيف في الأشهر القليلة الماضية ضمن برنامجهم الرائد لخدمة المجتمع. كان الرجل يتكلم بلغة الأرقام وفكري سارح أتأمل هذا الطراز من الرجال الذي يحدثك بتواضع شديد وسعادة غامرة وهو يزف بشرى تحقيق جميع أهدافه الشهرية في مجال خدمة الناس، وليس عن حجم مبيعاته وأرباحه. بخ ٍ .. بخ ٍ .. لقد ربح الرجل. إنه أمة أعمال في هيئة رجل!