جامعة الملك عبد الله.. وإعادة التاريخ (2)
تحدثت في مقالة الأسبوع الماضي عن أهمية اعتماد جامعة الملك عبد الله على موارد ذاتية لتحقيق الهدف المنشود من إنشائها وللوصول بها إلى مركز عالمي متقدم في مجال البحث العلمي. كما أشرت إلى أن اعتماد الأنظمة المعمول بها حالياً في تسيير أمور الجامعات السعودية كالأنظمة المالية والوظيفية سيعوق مسيرة الجامعة وسيؤدي بها إلى أن تكون مع الزمن نسخة مكررة عن الجامعات الأخرى. كما اقترحت اعتماد نظام المنح المعادلة المتناقصة Matching Grants الذي بموجبه يخصص للجامعة في الميزانية العامة للدولة منحة مالية مرتبطة بالإيرادات الذاتية التي تحققها الجامعة من خلال عوائد الأوقاف الممنوحة لها وكراسي البحث العلمي وبراءات الاختراع وعوائد استثماراتها. وذكرت أن هذا الأمر سيحفز الجامعة إلى تنمية إيراداتها الذاتية من خلال التركيز على تنمية أنشطة البحث العلمي لأن ذلك سيؤدي في النهاية إلى زيادة قيمة المنحة الممنوحة لها من الدولة.
ومن الأمور الإيجابية التي تميزت بها رؤية الجامعة هو عزمها على استقطاب خيرة العلماء في العالم في شتى مجالات العلوم والمعارف وأفضل الطلاب ومن مختلف الجنسيات وذلك لخلق بيئة تنافسية تحفز على التسابق في مجال الإبداع والإنتاج العلمي المتميز. وهذا في حد ذاته سيمثل عاملاً مهماً، ليس فقط في تحفيز البحث العلمي، وإنما في تحفيز المواطن السعودي سواء الباحث الأكاديمي أو الطالب على التنافس وبشكل متساو مع غيره من الأكاديميين والطلاب الأجانب دون اعتبار لميزة المواطنة. لذلك فإنني أراهن على أن هذه الجامعة ـ بإذن الله ـ ستنتج جيلاً جديداً من القيادات الوطنية المتميزة والتي ستأخذ ـ بإذن الله ـ بمبادرات التنمية الاقتصادية المستقبلية إلى الأمام. لكن يجب أن نتذكر أن استقطاب أفضل الكفاءات العلمية في العالم والاستفادة من نتاجها العلمي لتكوين قيمة اقتصادية مضافة ليس بالأمر السهل. فهناك تنافس محموم لاستقطاب هذه الكفاءات بين أفضل مراكز البحث العلمي والجامعات في العالم. والنجاح في استقطاب هذه الكفاءات يتطلب منا البحث والتقصي فيما يمكن أن يوفر البيئة الملائمة والمناسبة لعمل هؤلاء. فبجانب المزايا المادية هناك عدد من العوامل الأخرى التي تكفل أداء الباحث عمله بشكل أفضل مما سينعكس على الإنجازات العلمية للجامعة.
أول هذه العوامل درجة القيود المفروضة على حرية التفكير والتعبير سواءً لأسباب سياسية أو دينية أو اجتماعية، فكلما زادت هذه القيود حد ذلك من قدرة العالم على التحرك والإبداع في مجال تخصصه وهو الأمر الذي يأخذه العالم المتميز في الاعتبار عند إقدامه على العمل في أي منشأة بحثية. فعندما تتساوى المزايا المادية يبحث العالم عن المكان الذي يوفر له حرية أكبر في ممارسة وطرح أفكاره العلمية دون قيود عليها. بل إن الكثير من الباحثين قد يقبلون بعروض مادية أقل من بعض مراكز البحث العلمي التي تتميز بالحرية في طرح وتناول أفكارهم لأن ذلك يوفر لهم فرصة أكبر للتميز والإبداع. وليس معنى ذلك أن يتم رفع القيود بشكل كامل ولكن المرجو هنا تعريفها بشكل واضح وإبقاؤها عند الحد الأدنى الذي لا تتضارب فيه مع المقبول دينياً وأخلاقياً.
الأمر الآخر الذي يجب النظر إليه بتمعن هو مدى ملاءمة نظام الإقامة الحالي في المملكة مع التطلعات المستقبلية لجعل المملكة مركزاً لجذب أفضل العقول العربية والإسلامية والعالمية. ففي فترة سابقة من الزمن خسرت المملكة عدداً كبيراً من العقول العربية والإسلامية لصالح الجامعات ومراكز البحث العلمي في الولايات المتحدة بسبب نظام الإقامة الذي لا يلائم فئة تتسم بالتميز العلمي وتتسابق على استقطابها أفضل مراكز البحث العلمي في العالم. في حين لو توافر لهذه الكفاءات ولأبنائها فرص الإقامة الدائمة والتعليم والخدمات الصحية ولأن تكون جزءاً أساسياً من تركيبة هذا المجتمع لشكلت محوراً للتقدم العلمي في المملكة. فنظام الإقامة يعد عاملاً مهماً من عوامل نجاح سياسات دعم البحث العلمي في أي دولة، والمقارنة بين جاذبية الولايات المتحدة للباحثين والعلماء وبين جاذبية أوروبا وبين مرونة أنظمة الإقامة والعمل في كلتيهما يعطي مؤشراً على ذلك. فالباحث والعالم المتميز في الولايات المتحدة على يقين بحصوله بعد فترة من الزمن على جميع الحقوق سواءً السياسية أو المدنية التي يحصل عليها المواطن الأمريكي. بينما لا تتوافر هذه الميزات نفسه للباحث في الدولة الأوروبية والتي تفرض قيوداً شديدة على إجراءات الهجرة مما يجعلها تخسر الكثير من هذه العقول المتميزة.
والعامل الأخير الذي سيضمن تحقيق تطلعات القيادة لجعل المملكة مركزاً متقدماً من مراكز البحث العلمي هو توفير بيئة اقتصادية حاضنة للأفكار والاختراعات الجديدة وتحويلها إلى منتجات متميزة. وهذا يتطلب دعم وتشجيع إنشاء شركات الاستثمار المغامر Veture Capitals والتي توفر وسيلة لتحويل هذه الأفكار إلى منتجات حقيقية يمكن الاستفادة منها عملياً. وفي حالة عدم توافر ذلك فستخسر المملكة فرص استثمار هذه الأفكار والاختراعات لصالح شركات الاستثمار الأجنبية التي ستتولى استثمار هذه الاختراعات والاستفادة من عوائدها لصالح الدول التي تعمل فيها. ولك عزيزي القارئ أن تتصور حجم الفرص الاقتصادية التي ستخسرها المملكة نتيجة لذلك.