المواطن يعاني رفعا غير مبرر للأسعار.. وكل ينفي المسؤولية!

اجتمعت على المواطن ظروف ضيقت ونغصت عليه الاستمتاع بلقمة عيشه, وجعلته عاجزا عن تدبير أمور حياة أسرته بالدخل الذي يملكه, فمن أسباب خارجية تتعلق بظروف المناخ, كما يشاع, وتدهور القيمة الشرائية للدولار الذي يتبعه الريال, إلى أسباب داخلية مرجعها الجشع والاحتكار, واستغلال الظروف, بخاصة وقد تضافرت وتداخلت كلها مع مواسم يزداد فيها الاستهلاك, ويتلون فيها وجه الفقير خجلا أمام أطفاله, من عجزه عن تدبير الحد الأدنى لمتطلبات هذه المواسم, كشهر رمضان, وافتتاح المدارس, والعيد!...
ورغم أن هذا هو الحال, فإن هناك دعوات ونداءات يطلقها المستفيدون من هذه الظروف في الوسط التجاري, والعاجزون عن حلها من الوسط الحكومي, تستهدف التقليل من شأنها, ووصفها بالأمر الطبيعي الناجم عن أسباب خارجية لا قبل لهم بها, وذلك في محاولة لنفي المسؤولية عنهم, وقطع الأمل أمام المواطن, في عودة الأسعار, أو بعضها إلى سابق عهدها!...
وغير بعيد عنا الإعلانات الكبيرة الشهيرة, مدفوعة الثمن, التي أطلقها كبار التجار والمستوردين, وساقوا خلالها الأسباب والعبارات التي رأوها لتبرير ظاهرة الغلاء, على نسق شهادات تبرئة الذمة, في حين أن الذمة كان يمكن أن تبرأ بإظهار الأسباب الحقيقية للغلاء, ومنها أسباب داخلية, تتعلق بارتفاع هامش الأرباح لتجارة التجزئة, بعلم من المستوردين, رغبة منهم في تصريف مستورداتهم (الاقتصادية 28/8/1428هـ) واستغلال الظروف لرفع أسعار مواد عندما ترتفع أسعار مواد مشابهة لها, والاحتكار واستغلال حاجة الناس إلى مواد بعينها, ورفع أسعار المخزون من السلع عندما ما يحدث أي ارتفاع في الأسعار خارجيا, رغم أن الارتفاع لا يشمل ذلك المخزون!... كما أن الذمة يمكن أن تبرأ لو أعلن التجار ضمن إعلانهم الشهير, ولو من باب تطمين الناس, عن تخليهم عن نسبة ولو ضئيلة من الأرباح التي يحصلون عليها لصالح المستهلك تجاوبا مع نداءات ولي الأمر, ومراعاة لظروف المواطن, وتقديرا لدعم الدولة المادي والمعنوي, في جو من الحرية الاقتصادية والتجارية لا يماثله بلد آخر!...
نعم: إن ذمم التجار والمستوردين لا تبرأ بتلك الإعلانات لخلوها حتى من الوعد بأن غد الفقير سيكون أحسن من يومه في نطاق معيشته، وإنما الذي يبرؤها هو شهادات الفقراء بعد أن تكشف لهم الأسباب الحقيقية، وتزال الأسباب غير الحقيقية، ويجازى المستغلون، وتعود بعض المواد إلى سابق سعرها، ويتخلى التجار، ولا سيما في مجال التجزئة، عن بعض هوامش أرباحهم العالية، التي هي وراء السبب في ظاهرة انتشار محلات التجزئة في المملكة بشكل ليس له نظير في العالم!
ويبدو أن عجز الجهات الحكومية عن معالجة الأزمات التي تقع في نطاق اختصاصها وضمن مسؤولياتها, هو ما دعا ويدعو إلى الإعهاد بها إلى جهات مستقلة, كما حدث بالنسبة لأزمة الغلاء, التي تولت أمرها, بتوجيه من ولي الأمر الأعلى خادم الحرمين الشريفين ووزارة الداخلية, ممثلة في إمارات المناطق, والتي ستكون أقرب وأقدر من غيرها على ملامسة المشكلة, واستقراء أسبابها, والاستعانة في ذلك بالمحافظات والمراكز لنقل الحقيقة كما هي من أفواه المواطنين العاديين, وكان مجلس الشورى, قبل ذلك قد قام بدراسة المشكلة, وشكل لها لجنة خاصة, لا تزال تبحث الموضوع. ودعوتي إلى الكل, مجلس الشورى وإمارات المناطق, بالتعمق في بحث الموضوع وعدم الاعتماد على ما يقوله المسؤولون الحكوميون, والتجار والمستوردون, وعليها أن تسلك أساليب مبتكرة وذكية للوصول إلى الحقيقة, بعيدا عن الاجتهاد والتخمين والظنيات, ومن ذلك:
1 - مقابلة عينات من الأسر منتقاة عشوائيا, والجلوس إليهم والتحدث معهم حول المشكلة, والمواد التي زادت أسعارها, وهوامش الزيادة, وأسبابها من وجهة نظرهم, ومدى تأثرهم بها وتأثيرها في نفقاتهم الشهرية.
2 - اختيار شريحة منتقاة من المواد الغذائية الضرورية للمواطنين, وتتبع تكلفتها من المصدر, ومن ذلك التأكد من سعرها الأساس من المنتج, ومقارنتها بالأسعار العالمية, للتأكد من عدم وجود زيادة في السعر نتيجة تواطؤ بين المستورد والمنتج, لاحتمال وجود شيء من ذلك, بخاصة في السلع المعفاة من الرسوم الجمركية, ثم معرفة ما يضاف إليها من تكاليف النقل والمناولة, ثم هوامش الربح التي يضيفها المستورد, وذلك من أجل التأكد من مدى صحة ذلك, ومن عدم وجود مبالغة أو زيادة في أي عنصر من عناصر التكلفة.
3 - دراسة أسباب ظاهرة انتشار محال التجزئة, والتحقق مما يقال من أن ارتفاع هامش الربحية لديها هو السبب الرئيس في ذلك الانتشار، في محاولة من المستوردين للتنافس على تصريف بضائعهم عن طريق رفع هامش الأرباح لهذا النوع من التجارة, وذلك بتتبع أسعار البضائع وتكلفتها على تاجر التجزئة, وأسعار البيع التي تصل بها إلى المستهلك, لمعرفة مقدار هوامش الأرباح التي يحصلون عليها, ومن ثم اقتراح تخفيضها, للحد من تلك الظاهرة, سعيا لخفض تكلفة المعيشة على المواطنين.
4 - دراسة أسباب الزيادة الظاهرة في أسعار المنتجات المحلية, وبخاصة تلك التي لا يدخل ضمنها عناصر خارجية, مثل منتجات الألبان, والخضار, ومواد التغليف والتنظيف والبلاستيك, نظرا لأن الزيادات لم تقتصر على المواد المستوردة, أو التي يدخل في تكوينها مواد خارجية, بل شملت مواد تنتج محليا بالكامل, في جو يسوده التسهيلات والتشجيع, وانعدام الضرائب والرسوم!
يُعد مقالي هذا تتمة لما سبق أن تحدثت عنه في مقالين سابقين حول هذه الظاهرة التي لم تعهدها المملكة من السابق (الاقتصادية 21/8 و5/9/1428هـ) طرحت من خلالها رؤية مستمدة من الواقع، ومن أفواه الناس، حول المشكلة وأسبابها ووسائل معالجتها، أضعها أمام من حملوا أمانة وضع الحقيقة أمام ولي الأمر، سواء في مجلس الشورى أو إمارات المناطق، وذلك من باب تبرئة الذمة، والإحساس بمسؤولية المواطنة وأداء الواجب.
والله من وراء القصد

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي