ليتني لا أتألم!
.. رسالتان متطابقتان. الأولى من الشاعرة السورية ابتسام الحمصي، تقول:" لقد انتشرت قصة ناجي في المنتديات، ويصادفني أينما ترحلت في عالم السايبر.. وكل تعليقي: ليت أني لا أتألم!". والثانية من الأستاذ عبدالله العيوني:" يا أخي أرى النفاق والمداهنة، فأتمزق من الغضب الداخلي، وقرأت مقالة لك ترد على أحد الكتاب حين – لا شـُلـّت يده- صرح بكل تزلفٍ مارج ألا فقر في بلادنا وأن غنمنا تسرح مع الذئاب..آمنة، ورددتَ عليه بمقالة بعنوان: بل هناك فقرٌ يا أخي. ونتيجة ما أراه في عملي الخيري من ضروب الفقر في مناطق في مدننا.. تمنيت يوما يا صديقي هو أن يُلغى من جسدي جهاز الشعور بالألم!"..
الشعور بالألم يا إخوتي وأخواتي، نعمة أم نقمة؟ لن أحيركم كثيرا، هو نعمة إن كان تحذيرا من خطر ماحق، وإن كان هذا التحذير هو الطريق لإصلاح دواعي الألم، أو إزالتها من الوجود.. لأننا لن نعرف دون الألم ما هو الضار، وما هو الخطر. وهو نقمة بل جهنم على الأرض، إن كان بلا حل ومربوط بالزمن ارتباطا دائما لا يتحلل ولا يتغير ولا ينتقل..
الشعور بالألم المادي يختلف عن الألم النفسي تشريحيا ووظيفيا وشعوريا، ولكن في النهاية يصبان كلاهما في بحر الوجع الإنساني. يعرف الأطباءُ أن هناك حالاتٍ إنسانية ومسجلة لفئة من البشر لا تشعر مطلقا بالألم.. لو أحرقتهم أحياء لما قالوا :آه.. لقد سُئلت فتاةٌ عن مدى ألمها لما انغرز مسمارٌ ضخمٌ من آلة طرق الحديد الأتوماتيكية ( تستخدم في لحم قضبان الفولاذ في بناء هياكل ناطحات السحاب) كل ما شعرت به حسب إفادتها: "لقد تضايقتُ قليلا، وشعرتُ للحظةٍ أني أود الاستفراغ.." فقط!
من البرهة الأولى يبدو أن عدم الإحساس بالألم شيء ممتع.. ولكن الحياة مريعة بلا ألم.. إن الألمَ هو صفارةُ الإنذار في الحروب حتى نهرب للملاجئ، أو يستعد الجنودُ لمقاومة الأعداء.. إن الألمَ يأتي معه وبصفقةٍ واحدة لا تنفصل، شيءٌ يسمّى علميا الانعكاس العصبي.. وشاع عالميا بكل اللغات بمعناه اللاتيني "رفلكس".. ورد الفعل يعني اتخاذ استراتيجية مقاومة أو إزاحة أو البعد أو الوقاية ضد مصادر الألم.. لذا فالألمُ هبةٌ ربانية لأنها هي التي تـُحدث هذه الانعكاسات..
وماديا من ناحية تشريحية لدينا نوعان من نقل الإحساس بالألم، لما تضع يدك على سطح فرن ساخن فإن الانعكاس يكون هائلا وسريعا وآنيا، ويُدرك هذا النوعُ من الألم وينقل للدماغ عن طريق أعصابٍ صغيرةٍ معزولةٍ تسمى ألياف أ- دلتا. وهناك نوع من الألم المستمر الملح مثل الصداع، وألم الأسنان، تحملها أعصاب مُعَرّاة وصغيرة ولكنها غير معزولة عبر ما يسمى ألياف سي إلى الدماغ..
يعني عندما ينخلع حوضك من ظهرك من مدة جلوسك على مقعد السيارة، وأنت تبحث عن مخرج في مدينة محفورة بلا إشارات ولا توجيه ولا مدةٍ زمنيةٍ، هل الشعور بالألم هنا نعمة أم نقمة؟ لو تعرف أنها خطة ضمنية مجدولة للصيانة والتطوير يصبح مؤشر الألم نافعا هنا، ولكن دون ذاك هو شعور تنقله أعصاب عارية ضاجة وصاخبة وهو نوع الألم الباقي والملح كوجع سن انغرز جذره في قلب العصب.. ولكن إن خلعت سنك فكيف تخلع الشارع.. أو كيف تخلع العباقرة وراء هذه الفوضى العارمة.
عندما ترى أن مرافقنا التعليمية دائما مزحومة، ودائما تتكرر مآسيها، وعندما ترى ألا حلا نهائيا للصيانة الأسواق والصحة، وألا حلا نهائيا للاستهتار بالمال العام، ولا حلا لإمبراطورية البطش في المصالح.. وعندما ترى أن الخدمات تتداعى، وأن الناس أيضا صاروا يرحلون إما بأموالهم، أو بأولادهم للعمل والدراسة في الخارج، فهنا تستيقظ هذه الخلايا العارية وتنقل للدماغ ألما مستطيرا دائما وملحا.. والحل، أن كنتَ تصيح في وادٍ مثل أودية الموت في أفلام الغرب الأمريكي، هو أن تطلب الله أن ينقذك من هذه الأعصاب الصغيرة ويجمد عملها كي لا تحس في الألم، وتمشي بليدا فرحا، وأعضاء من جسدك وأجزاء من قلبك تتساقط في الطريق دون أن تشعر بهم.
أما آلامنا من مشاهد الفقر والمرض.. فإن لم يُشجَّع العملُ الفرديُ والأهليُّ التطوعي، وتنتشر الجمعيات والأعمال بالآلاف، قلا حل لألم حاد سريع حين تقع عيناك على مشاهد فظيعة من صنائع الفقر، وسيكون العمل في معامل الخلايا "ألف دلتا" في ذروته وبساعاتٍ إضافية.. والنتيجة: ألمٌ قاطع كلسعة النار، أو كقطع حد السكين..
وإن لم يدرك هذا المجتمعُ أن فئات الحاجات الخاصة هم عباقرة في طور التشجيع والاكتشاف، وأنهم لا يريدون شفقة ( فهي أخت الإهمال) ولكن يعطون حقهم في إتاحة الوسائل والمرافق كي يثبتوا أنفسهم بجهودهم، ويقودوا حياتهم بإرادتهم، وينجحون ويعملون ويفشلون ويمرضون ويصحون مثل بقية خلق الله.. فإن ألم الشاعرة السورية، وآلام كل شاعر بمعاناة أخيه الإنسان سيكون فعلا كسعيرٍ أرضي.
اللهم علمنا ثقافة الألم!